وكيف تلَذُّ طعم العيش نفسٌ
غدتْ أترابها تحت التراب
فما أصدق قول الشاعر عبدالله بن أحمد الميكالي لهذا البيت الذي يَصبّ لوعةً وأسى في حِياض قلب كل مَفجوع في رحيل غاليه، رحيل لا إياب بعده حتى يوم النشور..، فلقد أخبرني أحد أبنائي بعد صلاة فجر يوم الخميس 15-4-1441هـ مُعزياً في وفاة صديقي ورفيق طفولتي الأخ الحبيب عبدالرحمن بن عبدالله العواد حيث فاضت روحه الطاهرة إلى بارئها في 14-4-1441هـ بعدما استوفى نَصيبه من أيام الدنيا..، تاركاً أثراً طيباً وذكراً حسناً، وذرية صالحة، تدعوا له وتحيي ذكره بالبذل في أعمال البر والإحسان..،
ولقد حزنت وتأثرت كثيراً على رحيله عن أسرته وعن محبيه، وقد اتصل بي قبل ثلاثة أيام أو أربعة، فشعرت في نبرات صوته الهادئ أن تلك المحادثة معه محادثة وداع وتحسر على تفرقنا بعد طول عشرة وتآلف منذ أيام الصغر الحبيبة إلى قلوبنا مكرراً الدعاء لنا، وكأنه يكفكف دمعات عينيه -تغمده المولى بواسع رحمته- وهذه حال الدنيا حياة ثم ممات، فالسعيد من يرحل بزاد من التقوى يضيء له الدروب إلى دار المقام دار النعيم:
ولا خير في الدنيا لمن لم يكن له
من الله في دار المقام نصيبُ
والحمد لله فقد نشأ وعاش في طاعة الله، باراً بوالديه وواصلاً لرحمه ـ تغمده المولى بواسع رحمته ـ ولقد أديت صلاة الميت عليه بعد عصر يوم الخميس 15-4-1441هـ بجامع البابطين شمال الرياض ثم حمل جثمانه الطاهر إلى مقبرة الشمال داعين المولى له بالمغفرة وحسن الوفادة، ثم انصرف أبناؤه وأحبابه بعدما أودعوه باطن الأرض...، ولك أيها القارئ الكريم أن تتصور حالهم وبداخلهم مابه من حزن عميق، ولوعات فراق أبدي -كان الله في عونهم- وقد كانت ولادته -رحمه الله- في أوائل الخمسينات..، وعاش بين أهله وإخوته مَسْرُوراً بحسن رعاية والديه له ولإخوته وشقيقته..، وعند بلوغه سن السابعة من عمره ألحقه والده بالمدرسة المجاورة لمنزله لتحفيظ القرآن الكريم حتى أكمله تلاوة وحفظاً، وكان المعلم «المطوع» يشجعنا على ذلك -رحمه الله- ولقد عشنا صغاراً معاً، ومع شقيقه ناصر وعدد من أقراننا أمثال الإخوة: محمد بن عبدالعزيز المشعل وعبدالعزيز بن عبدالرحمن المبارك وعبدالله بن إبراهيم الخميس، ومحمد بن إبراهيم الشريدي، وابراهيم بن صالح، وعبدالله بن سليمان الحميدي، وغير هؤلاء من أبناء محلتنا بحي «قراشة» وكنا نقضي جزءًا من سحابة يومنا، وفي أوائل الليالي المقمرة في مزاولة ألعابنا الشعبية المتنوعة المحببة إلينا في لهوٍ ومرح، وأحياناً نستمع لبعض الأحاجي والقصص المشوقة الحقيقية وربما تكون خيالية في غالبها ممن هم أكبر منا..، فنجد في ذلك متعة وراحة بال، ولازال رنين تلك الذكريات الجميلة يُجلْجِل في خواطرنا وبين جوانح من بقي الآن منا:
ما أحسن الأيام إلا أنها
يا صاحبي إذا مضت لا تعود
ولما كبر واشتد ساعداه أخذ يفكر حيرانا كيف يجد عملاً لطلب المعيشة خارج مهوى رأسه لشح الوظائف بنجد -آنذاك- ثم خطر بباله معنى قول الإمام الشافعي -رحمه الله- الذي يحث مؤكداً على مغادرة موطن الأهل لاكتساب المعيشة وعزّة النفس، حيث قال:
ما في المقام لذي عقل وذي أدب
من راحة فودع الأوطان واغترب
سافر تجد عوضاً عمن تُفارقه
وانصب فإن لذيذ العيش في النّصب
ثم سار على بركة الله مُيمماً المنطقة الشرقية، ومُلفياً على معالي الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن بن عدوان -رحمه الله- الممثل للحكومة لدى شركة أرامكو لتوفر الوظائف لديها في تلك الفترة الزمنية، فوجهه إلى مدير الشركة، وتم تعيينه هناك. فمعالي الشيخ عبدالله بن عدوان ورئيس مكتبه الأستاذ الفاضل حمد بن علي المبارك يحرصان على توظيف كل من يؤم المنطقة الشرقية لشح الوظائف في نجد وفي جميع أنحاء الوطن -آنذاك- ولكن غيّرَ الله من حالٍ إلى حال أفضل، وهذا من فضل الله على هذه البلاد رحبة الجوانب في ظل حكومتنا المباركة على تعاقب الأيام والليالي رحم الله جميع من غاب عنا وأسعد الحاضرين:
هم الملوك وأبناء الملوك لهم
فضل على الناس في اللأواء والنّعم
وعمل بالشركة لمدة ثلاثة أعوام ثم انتقل إلى العمل في شركة بيكتل في بداية تأسيس مطار الرياض عام 1366هـ، ثم عمل في بلدية الرياض لمدة ثلاث سنوات، وأخيراً انتقل إلى مصلحة معاشات التقاعد إلى أن تقاعد منها على المرتبة العاشرة حميدة أيامه ولياليه، وله مساهمات اجتماعية، وخيرية ولنا مع «أبو عبدالعزيز» ذكريات جميلة لاتغيب عن خواطرنا مدى العمر، -تغمده المولى بواسع رحمته ومغفرته- وألهم أبناءه وأبناء أخيه محمد، وبناته وعقيلته وأسرة آل عواد ومحبيه الصبر والسلوان.
** **
- عبدالعزيز بن عبدالرحمن الخريف