د. إبراهيم بن محمد الشتوي
لا أدري من الذي قال لي إن سلسلة شوقي ضيف في تاريخ الأدب العربي كانت دروسًا ومحاضرات يلقيها على طلاب كلية الآداب - قسم اللغة العربية في جامعة القاهرة، وأنها جمعت بعد ذلك في كتب، وإلى هذا يعزى ما يرى من عدم عناية بطرائق التوثيق التقليدية، والإحالة أيضًا أو في عدم الضبط في روايات الحكايات في بعض الأحيان.
وأيًا ما يكن، فإن هذه الكتب قد تقبلت قبولاً حسنًا في أقسام اللغة العربية في الجامعات، فاتخذها كثير من الأساتذة مراجع لمادة تاريخ الأدب يعودون إليها، ويرجعون طلابهم كذلك.
والحديث عن هذه الكتب -كما يقال- حديث ذو شجون، وقد يجر بعضه بعضًا، فالحديث عن الظواهر التي تناولها، والمصادر التي اعتمدها، وطريقته في التعامل مع المصادر، وتوظيف المعلومة كلها قضايا تستحق الوقوف والمناقشة وغيرها كثير.
وهي قضايا تعود في مجملها إلى مشكلات تاريخ الأدب بوجه عام، بيد أني أريد أن أقف عند قضية واحدة من القضايا تلفت الانتباه عند قراءة هذه السلسلة، وتكاد تكون مسيطرة عليها، فالقارئ يؤخذ بالأسلوب الذي جاءت به هذه الدراسات، والطريقة التي قدمت بها المعلومات، فقد كتبت بلغة سردية مبنية على القص التاريخي، وعرضت المعلومات بصورة تتوخى بعث التشويق في نفس المتلقي، والإثارة، فجاءت المعلومات وكأنها أحداث تتتالى ربط بينها برابط سببي أحيانًا، أو رابط تاريخي، أو وصفي يحتوي على نعت مشوق ومثير.
يقول عن قصائد المدح: «وربما كان أهم ما سجلته صحف المديح في هذا العصر صور الأبطال الذين كانوا يقودون جيوش الأمة المظفرة ضد أعدائها من الترك والبيزنطيين، فقد أشادت إشادة رائعة بكل معركة خاضوا غمارها، وكل حصن اقتحموه، حتى كادت لا تترك موقعة ولا بطلاً دون تصوير يضرم في النفس العربية الاستبسال والمضاء وجلاد الأعداء جلادًا عنيفًا».
فاللغة في هذا المقطع يغلب عليها البعد الفني، فالقصائد صحائف، والذين يقودون الجيوش أبطال، والألفاظ تتبع بصفات تبين موقف الكاتب من الحدث، وتمتلئ ببعد حماسي يشحذ ذهن السامع، فالأمة مظفرة، وهي تحارب أعداءها، والإشادة تؤكد بالمصدر وبصفة رائعة، وسائر ألفاظ المقطع تكتنز ببعد إيحائي على قوة المعنى وشدة الموقف: (يضرم، استبسال، جلاد، عنيف).
فهذا المقطع على وجازته لا يتحدث عن قصيدة بعينها، ولا عن ديوان شعر أو شاعر، ولكنه يتحدث عن قصائد المدح التي كتبت بالقواد، من وجهة نظر مؤرخ الأدب شوقي ضيف وليست كما تبدو بالقصائد، فضيف بوصفه عربيًا يتحدث عن تلك الجيوش وقادتها بمعزل عمّا جاءت عليه في الشعر، وهذا ما يكسب هذه اللغة بعدًا فكريًا مستقلاً عن بعد التاريخ الأدبي.
وفي موضع آخر، وهو يتحدث عن غرض المدح، يقول: «وكانت المدحة قديمًا تشتمل على مقدمات تصف الأطلال وعهود الهوى بها وما يلبث الشاعر أن يستطرد إلى وصف الصحراء ناعتًا ما يركبه من بعير أو فرس وما يراه من حيوان وحشي، وقد يعرض لوصف مشهد صيد، وكثيرًا ما يضمنها بجانب ذلك حكمًا توسع مدارك السامع...وكل ذلك استبقاه شاعر المدحة في العصر العباسي، ولكن مع إضافات كثيرة حتى يلائم بينه وبين عصره».
فهذا المقطع يبدأ بالفعل الناقص «كانت المدحة» وهذا يعني أنه يقص حدثًا في الزمن الماضي، ثم يأتي الحدث اللاحق وهو أنه يستطرد إلى الوصف، وهو يصف شيئًا يتصل به فهو ما يركبه أو يراه، أو يقوم به كمشهد الصيد، ثم يعرض للحديث عن الحكمة دون أن يحدد موضعها من القصيدة. ولأنه يتحدث عن العصر العباسي فإنه يخلص إلى موضوعه بسرعة ويبين أن العباسي قد التزم بالنهج القديم وأضاف إليه موضوعات أخرى بلغة موجزة يغلب عليها الاعتماد على القص والتصوير.
والقص كما أسلفت يبدو من خلال الأفعال المتتابعة، وهي صفة في الكتابة لدى ضيف نستطيع أن ندلل عليها من زاوية أن غالب مطالع الفقرات هي جمل فعلية ماضية، وكذلك الجمل فيما بينها، فنجد القطعة من الكلام يتألف من: (وتحول الشاعر، وقد مضى يتحدث، واتخذوا، وجعلتهم، واستهل، وتوسع). وأما التصوير فيبدو من خلال النعوت التي يصف بها الألفاظ التي يعبر بها أو من خلال بناء تركيب التوازي بين الجمل بالاعتماد على تقنية الحال مثل قوله: «ناعتًا» أو « كثيرًا» أو الجملة الاسمية.
وهما، سواء السرد أو الوصف، من مكونات الخطاب السردي بوجه عام كما هو معلوم، الذي يقوم على أسلوبين هما: القص والوصف، ما يعني أن الوصف المستعمل في تكوين الخطاب لا يخرجه عن السرد، ولا يتناقض مع سيطرة فعل القص خاصة إذا اعتبرنا ذلك الوصف مما يسميه بعض الدارسين بالسرد الوصفي.