في إحدى المؤتمرات المختصة بالترجمة الأدبية في أمريكا، وفي ورشة عمل خاصة بترجمة الأدب العربي إلى اللغات الأجنبية، أثارت أستاذة جامعية تساؤلاً حول سبب وجود المعاناة والألم والبكاء في قصص وروايات الحب العربية؟! لاحظت تلك الأستاذة أن عدداً من طلابها الدوليين الذين درسوا العربية وبدأوا يشتغلون في ترجمة الأدب العربي إلى الإنجليزية وغيرها يقفون في حيرة من أمرهم أمام هذه الظاهرة، وأشارت إلى أنها وطلابها لا يجدون تفسيراً مقنعاً للمعاناة التي تنشأ بسبب قصة حبّ جميلة كان من الممكن أن تستمر أو أن تنتهي متوّجة بأثر جميل أو بفلسفة أعمق في الحب والمشاعر الإنسانية الرفيعة.
تحتاج تلك الأستاذة وطلابها إلى أن يفهموا أن الإنسان العربي يطرب بالحزن ويبدع بالتعبيرعن الألم والبكاء والهجر والخذلان، وإلى أن يعرفوا أن الأدباء العرب اليوم هم تلاميذ لشعراء الماضي المجيد ممن استهلّوا أعذب أشعارهم بالبكاء على المحبوبة وأطلالها، وبأن كثيراً من الكتّاب العرب قد أرهقهم العيش وحيّرهم معنى الوجع والترحال في الحياة أكثر من معنى الفرح والاستقرار. على مترجمي الأدب العربي أن يستوعبوا أن الكتابة كانت وما زالت عبئاً ثقيلاً لا يحتمله ولا يقدر عليه ولا يتقنه إلا الكاتب العربي المناضل الذي يجد في الكتابة منفذاً تتسلّل منه آماله وهواجس مجتمعه وأحزانه المكبوتة إلى عالم رحب، وبأنه كلّما تعمّق الكاتب العربي في وصف الحالة التي آلت إليها أمته فاضت قريحته وغزر إنتاجه وذاع صيته!
لقد أخلص كثير من الأدباء العرب لأولئك العمالقة في الأدب، ولأبيهم آدم عليه السلام فيما يُنسب إليه من أنه كان أوّل من كتب قصيدة رثاء في التاريخ حين فقد الإحساس بالجمال والحياة بعد مقتل هابيل، فحذو حذوهم. وأصبح الأدب ملجأهم حين يشعرون بالحزن أو الإحباط فيكتبون وينظمون نثرا وشعرا يحاكي أدب أسلافهم مضموناً لا شكلاً! لقد أخلصوا لهم كثيراً حتى تعلّموا منهم مهارة التورية بالحزن حين الفرح، والانزياح عن معاني الحب والعشق والوفاء إلى معاني الألم والمعاناة والخذلان، والتي تتعمّق وتتجدد حتى تصل إلى قمّة الإبداع فتجعل القارئ يتنفّس غبار معركة الحياة بكلمات تستنجد بما بقي من أمل في ذهن ذلك القارئ الذي قد لا يدرك من ذلك الوجع إلا فضيلة التنهيد له بنفس عميق. وما ذلك إلا نتيجة فهمهم بأن المعاناة والخيّبة ووجود الهاجس هي المحرّكات الأساسيّة للكتابة وللعمل الإبداعي بشكل خاص. تعلّم الأدباء العرب من أسلافهم، ومن واقع مجتمعاتهم، ومن أول قصيدة رثاء في التاريخ الإنساني، أن الأدب استنطاق للمشاعر المكبوتة قمعا، وتحرير للهواجس التي تؤرّق الإنسان همّا، والتي تتشكّل على هيئة كلمات تجسّد حكاية أولئك البؤساء والحالمين على أرض الواقع الزاخر دوماً بما يفوق خيال الأديب.
نسمع ونقرأ بين الحين والآخر تصريح بعض الأدباء عن علاقتهم مع الكتابة الإبداعية وأهميتها بالنسبة لهم. نسمعهم يصرحون بأن الكتابة هي المتنفس، والمنفذ الرحب، والوعاء المرن الذي يشكّلون به همومهم وأفكارهم ونقدهم لظواهر محددة في مجتمعاتهم، ويحللون كثيراً من تقلبات الزمان والمكان ونزعات الإنسان العربي. فهم مبدعون في تحويل المعنى الجميل، بعد مزجه بالشعور الخاص «القلقْ» الذي لا يخلو من تأثير العوامل الفكرية والاجتماعية والسياسية التي عاصروها، إلى قطعة فنيّة يجتهدون فيها كي تحرّك قلب القارئ البسيط، وتستفزّعقل القارئ الدقيق، وتحيّر قلم المترجم الوسيط.
على مترجموا الأدب العربي إذن أن يفهموا جمالية ذلك الحزن ومنشأه ولا يستغربوه، كما أن عليهم الحذر من ترجمة نصّ عربي موغل في تجسيد معاني الجمال والسعادة المزيّفة؛ وذلك لأن الأدب العربي أصبح أصدق مرآة للمجتمعات العربية لدى الأمم الأجنبية التي تقرأه على أنه وثيقة انثروبولوجية. عليهم أن يفهموا أن الكاتب العربي اليوم هو الشاهد الذي أعياه المشهد ووقف أمامه منكسرا بانكسار نضال القلم! عليهم أن يدركوا أن الكاتب العربي كان عليه أن يختار، كما ذكرت أحلام مستغانمي، بين أن «يكون سعيداً.. أو أن يكون كاتباً؛ لأنه لا يستقيم الجمع بين السعادة والأدب، ولا بين السعادة والعرب، فأوّل ما نطق به شاعر عربي كان» قفا نبكِ من ذكرى حبيب ومنزل». ومن يومها ولعنة امرئ القيس تُطاردنا!»
** **
- غزال بنت محمد الحربي