د.عبدالله مناع
بعيدًا عن التصريحات المثيرة للجدل التي أدلى بها رئيس الوزراء الأثيوبي (أبي أحمد) - الحاصل على جائز نوبل للسلام لعام 2019م - في البرلمان الأثيوبي، والتي قال فيها: (إذا كانت حاجته للحرب مع مصر بسبب «سد النهضة».. فنحن مستعدون لحشد ملايين الأشخاص، ولكن المفاوضات هي التي يمكن أن تحل الجمود الحالي)!!
وبعيدًا عن الرد المصري - الأكثر هدوءًا واتزانًا- على ما قاله رئيس الوزراء الأثيوبي، والذي جاء أخيرًا على لسان الخبير المائي الدكتور ضياء الدين القوصي عندما قال: (إن كل الخيارات مفتوحة أمام مصر لمواجهة (أزمة سد النهضة)!! وهو يشير قائلًا: (إن التفريط في مليار متر مكعب من الماء سيؤدي إلى بوار 200 ألف فدان من الأراضي المصرية)..!!
بعيدًا عن هذا وذاك.. فإن الذي (يجمع) البلدين الإفريقيين الكبيرين اللذين يستقيان ويعيشان على نهر واحد.. أكبر مما يفرقهما! فـ (مصر) بحضارتها وتاريخها وثقافتها وأزهرها وأبوابها المفتوحة لكل الوافدين إليها، وبدورها النضالي الإفريقي والآسيوي الذي لعبته منذ خمسينيات القرن الماضي.. استطاعت أن تساعد الدول الإفريقية - عربًا وغير عرب - من نيل حريتها واستقلالها من الاستعمارين: «البريطاني» و»الفرنسي» اللذين كانا يهيمنان على شعوب ودول القارة السمراء، وفي المقابل.. فإن لـ (الحبشة) -كما كان اسم «أثيوبيًا قديمًا- مواقفها الإيمانية المشرفة في استقبال (المسلمين) الأوائل الفارين بدينهم و»وحدانيتهم» من (صنمية) قريش و»ثنيتها».. وإيوائهم وطمأنتهم حتى عادوا إلى وطنهم..
أما (حديثًا).. فإن ذاكرة أثيوبيا لم تضعف بعد إلى الحد الذي يجعلها تنسى مواقف مصر وزعامتها، التي جعلت من عاصمتها «أديس أبابا» لتكون (مقرًا) للأمانة العامة لـ (منظمة الوحدة الإفريقية) في الخامس والعشرين من شهر مايو من عام 1963م.. والذي تم تغيير مسماه إلى (الاتحاد الإفريقي) عام 2001م.
إن تاريخًا جميلاً يجمع بين مصر و(أثيوبيا) قبل وبعد ثورتها على الإمبراطور (هيلا سيلاسي).. فما الذي أزَّم العلاقة بينهما حتى وصلت إلى مرحلة (الجمود) التي تعانيها الآن...!؟
إنه مشروع (سد النهضة) الذي قررت (أثيوبيا) إقامته على مياه (النيل الأزرق) بالقرب من منابع نهر النيل عام 2012م، والذي أساءت مصر (الإخوانية) استقباله.. وإلى الحد الذي عقد معه الدكتور مرسي وبعض من وزرائه جلسة عمل مفتوحة على الهواء.. لتداول الرأي حول ما يجب على مصر أن تفعله لدرء المخاطر عن النيل ومياهه وحصة مصر فيها، وأن رئيس الجمهورية آنذاك الدكتور مرسي أو أحد وزرائه هدد بضرب منشأة السد عند قيامها بـ (المقاتلات المصرية)!! لتشعل عشوائية تلك الآراء.. فتيل الخلاف بين (أثيوبيا) ومصر.
ومع أن (مصر).. استطاعت بثورتها المليونية الحاشدة في الثلاثين من يونيه من عام 2013م.. أن تتخلص من (الإخوان) وحكمهم وعشوائية آرائهم، حيث تبدلت معها الأحوال السياسية في مصر بمجيء سلطة شرعية دستورية بـ (رئاستها) المنتخبة ومجلس وزرائها المنتخب ومجلسها النيابي المنتخب.. فقد أخذت.. تبحث في تركة الإخوان الثقيلة وفي مقدمتها ملف «سد النهضة» الأثيوبي.. لتصل في النهاية عبر وزراء الري الثلاثة في كل من أثيوبيا والسودان ومصر إلى ما عُرف فيما بعد بـ (اتفاق إعلان المبادئ) الذي تم التوقيع عليه في العاصمة السودانية.. بعد عامين من زوال حكم الإخوان أي في عام 2015م.. ليحكم العلاقة النهرية والمائية وتنظيمها بين الدول الثلاث.. لتنطلق (أثيوبيا) بعد ذلك في استكمال بناء إنشاءات «سد النهضة»، وقد ظنت كل من مصر والسودان أن (أثيوبيا) ستلتزم بما جاء في (اتفاق إعلان المبادئ)، الذي تم التوقيع عليه في شهر مارس من عام 2015م!!
لكن التوقيع على (اتفاق إعلان المبادئ).. أدى لما لم يكن في حسبان كل من مصر والسودان، فقد فتح الباب لـ(السياسة).. وألاعيبها ودسائسها ومؤامراتها: فقد أعلنت «إسرائيل» دعمها لبناء «سد النهضة».. وفي ذاكرتها أن تعيد الحياة لما كان يهرطق به الرئيس السادات عن إمكانية مد فرع صناعي لمياه النيل حتى تصل إلى «إسرائيل»، وهو ما أربك مشروع بناء «سد النهضة»..؟!
لكن الخلافات حول بناء «سد النهضة» الأثيوبي.. كانت قد تجسدت بعد سنوات قليلة من التوقيع على (اتفاق إعلان المبادئ)، عندما اكتشفت مصر.. في ظل التكتم الأثيوبي حول أخبار (سد النهضة).. أن مشروع سد النهضة كبير بأكثر من حاجات أثيوبيا التنموية، وأنه مرتفع جدًا وبما يخالف (اتفاق إعلان المبادئ)، الذي نص على انخفاض السدود عند دول (المنبع) كـ(أثيوبيا).. حتى لا يؤثر سلبيًا على إمدادات دول (المصب) وهي مصر والسودان..
ولا أحد يدري إذا كان قد تم تخفيض ارتفاع السد.. أم بقي على حاله في ظل التكتم الأثيوبي عن أخبار السد.
ولكن يبدو أن ارتفاع (السد) بقي على حاله.. وهو ما أوجد الخلاف (الثاني) بين الدولتين حول (ملء) السد بالمياه؟ ففي الوقت الذي طالبت فيه مصر.. بأن يكون (ملء السد) بموافقاتها.. رفضت أثيوبيا ذلك تمامًا، وهو ما حمل مصر على إجراء دراسات مائية لمعرفة الفترة الزمنية المناسبة لملء السد بالمياه دون إضرار بدولتي المصب.. السودان ومصر..، فكان أن أشارت تلك الدراسات إلى أن الفترة الزمنية الأفضل لملء السد هي من سبع إلى عشر سنوات كي لا تتضرر حصص مصر والسودان في مياه النيل؟ لكن «أثيوبيا» رفضت هذا المقترح.. وقدمت بديلاً له.. من أربع إلى سبع سنوات.. وهو ما يلحق الضرر بحصتي مصر والسودان، الأمر الذي أوجد حالة من الجمود في المفاوضات.. جعلت مصر تلجأ إلى (اتفاق إعلان المبادئ) بحثًا عن حل لهذا الخلاف مع (أثيوبيا)، لتجد مصر ضالتها كما يقولون في إعلان المبادئ.. الذي تشير مادته العاشرة إلى إدخال (طرف رابع) في حالة وجود خلافات بين الأطراف الثلاثة.. مصر والسودان وأثيوبيا.. فطلبت الولايات المتحدة الأمريكية أن تتوسط في حل النزاع بين مصر وأثيوبيا، حيث رحبت مصر بالوساطة الأمريكية.. بينما رفضتها (أثيوبيا)!!
وهو ما جعل المبعوث الروسي للشرق الأوسط وشمال إفريقيا (ميخائيل بوغا ندوف أن يعلن في قمة (روسيا إفريقيا) التي جرت في أكتوبر الماضي بمدينة (سوتشى) الروسية.. عن استعداد روسيا الاتحادية للتوسط في حل النزاع بين أثيوبيا ومصر حول ملء وتشغيل «سد النهضة»، وقد أعقبه في المؤتمر ذاته لقاء إيجابي جمع بين الرئيس السيسي و(أبى أحمد) في الرابع والعشرين من شهر أكتوبر الماضي.. ولكن -بكل أسف- لم ينعكس إعلان التوسط الروسي.. واللقاء الإيجابي بين الرئيس السيسي بـ (رئيس الوزراء الأثيوبي).. على نتائج المحادثات التي جرت بين وزراء الري الثلاثة بمدينة الخرطوم وانتهت يوم الأحد الماضي، وبقيت أزمة ملء سد النهضة وتشغيله معلقة ربما إلى جولة أخرى من المحادثات بين وزراء الري الثلاثة!! وهو ما يدعونا للتوجه إلى (أثيوبيا) بطلب التجاوب مع الأفكار المصرية العادلة في ملء وتشغيل «سد النهضة».. لـ (مكانة) مصر وحضارتها ودورها التاريخي النضالي في تحرر القارة السمراء، ولا أظنني أبالغ إن قلت إنه لولا مصر وحضارتها الفرعونية وأساطيرها المقدسة عن النيل و(عروسه).. لما عرف نهر النيل العظيم نفسه.. فـ (مصر) في البداية والنهاية.. هي النيل والنيل هو مصر.