د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
يردد الكثير من المفكرين والكتاب والأدباء عبارة واسعة التداول مفادها «الأسلوب هو الرجل ذاته»، ويرجع البعض هذه المقولة المؤثرة واسعة الانتشار للقرن الثامن عشر لجورج لويس لوكليرك «كونت دو بوفون»، وأشهرها بعده كتاب آخرون منهم الأديب الأسكتلندي المعروف أوسكار وايلد، وغيره. ومن دون استغراق في التفاصيل فمفاد هذه المقولة أن للأسلوب أهمية في كل مناحي الحياة تشمل أمورًا ليست أدبية وجمالية فحسب ولكن على ما هو أهم وأشمل، وعلى وجه الخصوص الدبلوماسية والسياسية. والتاريخ يروي لنا مقولات أسلوبية جميلة أحلت السلام، وأخرى سيئة أشعلت الحروب، ولذا يمكن القول أيضًا إن «الأسلوب هو الدولة». وتعهد كل الدول لدبلوماسييها من ذوي الخبرة والمهارة الأسلوبية لصياغة كل بياناتها وبالذات الحيوية منها، ولجأ رؤساء الدول عبر التاريخ لكتاب مختصين ليكتبوا خطاباتهم. وتختلف المعايير الأسلوبية من ثقافة لأخرى ومن لغة لأخرى. وللأسلوب حساسية خاصة يدركها العارفون بالثقافات وبالمعايير الدبلوماسية.
وطالما تذكرت هذه العبارة كلما قرأت بعض البيانات التي تصدر من جهات رسمية لدينا حول مواضيع حساسة أو مواقف للمملكة يكون أسلوب صياغتها أقل من المطلوب ولا يرقى لمستوى بلورة المواقف ذاتها. ومؤخراً لاحظت ضعفًا أسلوبيًا في بيان المدعي العام باللغة الإنجليزية حول أحكام قضية المواطن عدنان خاشقجي، وهو بالطبع بيان قانوني يتطلب دقةً وصرامة لغوية كون لغته لغة قانونية منضبطة ومقتضبة. بيان المدعي العام كان دقيقًا ومنضبطًا وبلغة قانونية واضحة، لكن نسخته الإنجليزية، وهي في رأيي الأهم لأن القضية تحظى باهتمام دولي كبير كان يفتقر لبعض الجوانب الأسلوبية.
البيان كتب كله بالحروف الإنجليزية العليا capital letters وهو أسلوب يخالف قواعد اللغة الإنجليزية الأسلوبية، فهناك قواعد معينة لاستخدام هذه الأحرف البعض يعتبرها من قواعد الترقين الإنجليزية المهمة، بل ويخطّئ سوء استخدامها قواعديًا. فالفرق بين Bill»» الاسم مثل بيل كلينون وكلمة bill»» التي تعني فاتورة هو طريقة كتابة الحرف الأول. وهناك أمور أسلوبية أخرى في البيان كان بالإمكان كتابتها بشكل أفضل لا مجال لتفصيلها هنا ولكن لا تخطئها عين الخبير المطلع.
والنص نُشر على موقع وزارة الخارجية بإحالة لمكتب النائب العام ونُشر على موقع وزارة الخارجية. النص خلا من المقدمات التي تكتب عادة لتوجيه سياق قراءة البيان، وورد فيه بعض العبارات التي قد لا تكون مناسبة لمثل هذا البيان مثل استبدال كلمة «indicted» التي تستخدم عادة لوصف المحكوم عليهم، بكلمة «condemned» التي تعني المحكومين بالإعدام، مع أن بعض الأحكام كانت سجنًا، وتنتظر التأييد من الاستئناف. عمومًا لا مجال هنا لاستعراض كل الجوانب الأسلوبية لهذا البيان الذي عرض للعالم أجمع حول قضية حساسة.
فور قراءة البيان تواصلت - بعد بحث طويل - بالدكتور سعود كاتب، وكيل الوزارة للشؤون الدبلوماسية، والذي أفادني أن الوزارة لا دخل لها بالبيان وأن البيان أتاهم من وكالة الأنباء السعودية. ومن باب الفضول اتصلت بالوكالة وتواصل معي رئيس الهيئة معالي الأستاذ عبد الله الحسين مشكورًا فنقلت له انطباعي بأنه كان يمكن كتابة البيان بلغة أفضل وأسلوب أرقى، فأسرَّ لي بأنهم في الهيئة لا يملكون حق تغيير أسلوب أي بيانٍ صادرٍ من أي جهة رسمية أخرى لا سيما إذا ما كان مكتوبًا بالإنجليزية. فأسلوب كتابة البيانات يؤثر بشكل كبير على مدى تقبلها لا سيما ونحن دولة من دول العشرين التي تقود العالم اليوم، ولدينا إمكانات كبيرة لعمل ما هو أفضل من ذلك بكثير.
وهذا دفعني ذلك للتساؤل ألا يمكن أن تكون هناك جهة واحدة مخولة تراجع ما يصدر عن الجهات الرسمية باللغات الأجنبية وعلى وجه الخصوص اللغة الإنجليزية لا سيما في المواضيع الدقيقة والحساسة؟ والحقيقة أن وزارة خارجيتنا لا يشق له غبار في أسلوبها بالتخاطب مع العالم باللغة الإنجليزية: معالي الوزير فيصل بن فرحان مثلاً، يعكس أسلوب حديثة ودقة اختيار عباراته رقي وشموخ المملكة، وكذلك وزيرنا المفوه الأستاذ عادل الجبير، وغيرهما من الوجوه المشرفة للمملكة. لكن أسلوبهم الراقي يتغير للأسف في بعض البيانات الرسمية المكتوبة، أو تلك التي على وسائل التواصل الاجتماعي. ولا أشكك في حرص المسؤولين في كل جهاتنا الحكومية على إبراز مواقف المملكة بأفضل أسلوب، ولكن البعض منها يتسرب نتيجة لعدم دراية أو استعجال المناط بهم الأمر، أو عدم إدراكهم لهذا الجانب المهم. فكل ما يخرج من أي جهة رسمية باللغة الإنجليزية باسم المملكة يتحول مع مرور الوقت لوثائق تاريخية مستقبلية يرجع لها في حالات كثيرة.