(كان له أملٌ) مجموعة قصصيّة من تأليف الأستاذ محمد علي مدخلي، أديبٌ سعوديٌّ من منطقة جازان. صدرت مؤخرًا عن (دار السكريَّة للنشر والتوزيع) بالقاهرة، وتقع في 117 صفحة من الحجم الصغير. صمَّم غلافها الفنان: (شادي راغب).
تحتوي المجموعة على 76 قصَّة تعدُّ من القصص القصيرة جدًا، ويمكن _على خلاف في المسألة بين النقاد_ استثناء أول ثلاث أو أربع قصص منها، لأنهَّا أقرب ما تكون لـ (القصة القصيرة) العاديَّة. ومن هنا تكتسب المجموعة مزيَّة خاصةً بها، في ظل ندرة النشر لمجموعاتٍ كاملةٍ تحتوي فقط على: (قصص قصيرة جدًا) في النتاج الأدبي المحلي.
صدَّر المؤلف المجموعة بإهداء المجموعة إلى زوجته.
وإذا كانت العناوين هي أولى العتبات للوصول لفهمٍ أعمقٍ للنصوص، فيلفت القارئ في عناوين قصص (مدخلي) تكونها من كلمةٍ واحدةٍ فقط في المجمل، وغالبًا ما تكون تلك الكلمة (مفردةٌ نكرةٌ). ويستثني من ذلك عنوان المجموعة: (كان له أملٌ) الذي هو أيضًا عنوان إحدى قصصها، فهذا هو العنوان الوحيد الذي تكون من ثلاث كلماتٍ. وهناك أيضًا سبع قصصٍ جاءت عناوينها مكونّةً من كلمتين هما: (ذاكرة صغيرة)، (مجرى الدَّم)، (ذاك الرصيف)، (نقطة سوداء)، (شاهد عيان)، (فقط لمسة) و(آخر زيارةٍ).
إنَّ في استخدام القاص المكثَّف لعنوانٍ من كلمةٍ واحدةٍ في الغالب؛ مفرد ونكرة يتسق مع طبيعة اللون الذي يكتب به: القصة القصيرة جدا (ق.ق.ج)، وما تستلزمه من التكثيف والإيجاز والاختصار. زد على ذلك أنَّ العنوان بتلك الصورة يمنح دلالةً ضمنيةً في أن مكوِّنات القصّة _وبالأخص الأحداث والشخوص_ هي من الشيوع والذيوع والانتشار بمكانٍ بحيث يمكن أن تمثل أيِّ شخص، أو كثيرٍ من الناس. والعنوان المفرد النكرة لافتٌ وجاذبٌ ومحفزٌ ومشوقٌ على القراءة دون أن يفضح المحتوى، أو يحرقه. وهذا جانبٌ يحمد للقاص.
أمَّا العنوان العام للمجموعة: (كان له أملٌ)، فهو باعثٌ على سؤال المتلقي، محرضٌ على تساؤله لأنه يتحدث عن غائبٍ؛ فـ (من يكون) يا ترى؟ ويشير لأملٍ من الأرجح أنَّه لم يتحقق فـ (ما هو؟)، و(لماذا لم يتحقق؟) و(ماذا حدث بعد ذلك؟)!
أحسب أنَّ المؤلف وُفِقَ في وسم مجموعته بهذا العنوان، لأنَّ في معظم قصصها أشخاصٌ لهم آمالٌ ظاهرةٌ حينًا، وخفيَّةٌ في أحيانٍ أخرى لم تتحقق. لقد أشار العنوان لخيطٍ دقيقٍ يربط بين قصص المجموعة أو غالبيتها.
وظّف القاص علامة الترقيم: الفاصلة توظيفًا ذكيًّا. جعل منها فاعلةً في البناء القصصي، معيّْنَةٍ له في تحقيق شرط التكثيف، فقد وفَّرت عليه استخدام كثيرٍ من الكلمات، وعبَّرت عن تتالي الأحداث. وأبقت على الأسلوب سلسًا وكأنَّه أجزاءٌ من مقطعٍ موسيقيٍّ. وبهذا يكون القاص قد تجاوز بالفاصلة وظيفتها التقليدية في اللغة العربية، وهي الفصل بين الجمل القصيرة، والدلالة على أن الكلام مستمرٌ بعدها. ومثال ذلك نجده في قصة (استجابة):
«أطال في سجوده، دعا على من ظلمه، سقط الإمام مغشيًا عليه».
يقول الأميركي الهندي بيكو لاير: «إنَّ الترقيم يضبط عمل القانون في النصوص. وإن العلامات تشبه في التواصل تلك العلامات الموضوعة على الطرق، والتي تحدد لنا الاتجاهات والسرعة والمفارق. فالنقطة أشبه بالضوء الأحمر، والفاصلة ضوء أصفر يطلب منّا التمهل، والفاصلة المنقوطة إشارةٌ توقف تطلب التمهل التدريجي نحو التوقف الكلي، ومن ثم الانطلاق من جديد. عندما نستخدم الترقيم لتنظيم العلاقة بين الكلمات، ننظم تلقائيًا العلاقة بين قارئيها. والفاصلة، خصوصًا، أو الفارزة، كما يسميها البعض، تفصل ما لا ينفصل، وبسحرها تجمع ما يصعب جمعه». (1)
يشير بندر الحربي في مقالٍ له أنَّ مجلة (التايم) قد نشرت قطعةً أدبيّةً مميزةً في إطراء الفاصلة جاء فيها أنَّ الفاصلة تعطي الوصفَ تدفقاً ودقةً، واقتبست المجلة _والكلام للحربي_ عبارةً للأديب الروسي إسحاق بابل تقول: «تجعلنا الفاصلة نسمعُ انقطاع صوتٍ أو خفقة قلب. في الحقيقة، إنَّ علامات اللغة إشارات «حُب»، وعقبت المجلة قائلةً إن تمييز هذه العلامات يدل على شغفٍ بالكلمات، والمحبُ فقط هو من يستثمر هذه الأشياء البسيطة! (2)
لم يكتف القاص بتوظيف علامات الترقيم لخدمة غرضه، بل مضى قدمًا، ووظف الفراغات (أسطرًا فارغةً) دالةً على كلامٍ مفقود أو أحداثٍ مسكوتٍ عنها تستبين من خلال ما قبلها وما بعدها، أو من خيال المتلقي لما يحتمل أن تكون. ومثال ذلك الأسطر الفارغة قبل آخر سطرٍ من قصة (بينة).
ينهي المؤلف بعض قصص المجموعة بنقطتين متتاليين، وأحيانًا بثلاثِ نقاطٍ بدلًا من نقطة الانتهاء الواحدة دونما سببٍ مقنعٍ _من وجهة نظري_، ومن ذلك قصص (حدس) و(زبد) و(تأنيب).
ويلحظ القارئ سلامة لغة المؤلف من الأخطاء اللغويَّة نحوًا وإملاءً في وقتٍ أصبحت هذه الأخطاء قاسمًا مشتركًا يشوِّه كتابات كثيرٍ من الأدباء. إنَّ عناية المؤلف باللغة وصلت لحرصه على كتابة علامة (الشدَّة)، وكتابة علامات (التنوين)، الأمر الذي يتناساه عمدًا أو جهلاً كثيرٌ من الكتَّابِ رغم أنَّه من مقتضيات اللغة العربية عند كتابتها.
يستخدم المؤلف بحرفيّة مهنيَّةٍ الفعل الماضي كثيرًا، وهذا يتسق مع طبيعة القص الذي هو في الغالب حكايةٌ قد انتهت. كما أنَّه يستخدم الفعل المضارع حينما يريد إيصال رسالةٍ ضمنيةٍ أن أحداث تلك القصة قد حدثت، ومازالت تحدث وإن تغير الشخوص واختلف الزمان والمكان، ومثال ذلك قصة (أراجوز):
«يصنع السعادة في المساء بدمى خشبية. ومع طلوع الفجر يبحث عنها».
كثيرًا ما يشير مدخلي لأبطال قصصه بضمير الغائب. وضمير الغائب يمنح المتلقي فرصةَ أوسع لمزيدٍ من التخيل، وبالتالي يكتسب النص عمقًا أكثر، ويتشبع ثراءً بما يُضَافُ له، ويُضْفَي عليه من أخيُّلة وتخيلاتٍ كلِّ متلقٍ للنص، بفضل استخدام هذا الضمير بخلاف استخدام ضميري المتكلم والمخاطب اللذين يحدَّان كثيرًا من مجانيَّة منحة التخيل، ويحصرانها في تخيل المتلقي لشخصين فقط هما المخاطب، أو المتكلم الذي غالبًا ما يكون الراوي نفسه. إنّ استخدام ضمير الغائب يعطي للنص مجالًا أكبر، ويهبه احتمالاتٍ أكثر مما يزيد من ثرائه.
قناعة القاص بأنَّ الأدب الحقيقي أدبٌ إيحائيٌّ باقتدارٍ، لم تضطره _مثلما يفعل بعض الأدباء_ إلى استخدام لغةٍ مبهمةٍ في مفرداتها وتراكيبها؛ تحتاج من القارئ فكَّ شفراتها. استعاض المؤلف عن ذلك بالرمزيَّة التي يمكن أن تأتي، وتؤول من الحدث نفسه، ومن نتائجه وتحديدًا من المفارقات البارعة التي ينهي بها المؤلف قصصه الباعثة على الأسئلة. وهو أمرٌ يحمد للسارد روائيٍّا كان أو قاصًّا، لأنَّ السرد أدبٌ موجهٌ لعامة الناس، لذا لا بد _والحالة هذه_ أن تكون لغته مباشرةً دون ابتذالٍ، واضحةً دون تكلفٍ وتصنعٍ قد يصرف القارئ عن قراءة العمل، أو متابعة قراءته بمجرد أن يشرع فيها. الشعر فقط _من وجهة نظري_ قد تناسبه أحيانًا اللغة الرمزيَّة، لأنَّه لونٌ أدبيٌّ قد يصدق عليه وصفنا إيَّاه بالنخبويِّ بخلاف السرد.
موضوعات قصص المؤلف تحضر فيها قضايا الشأن العام مثل الفساد، الإرهاب، عدم توفر أسِرَّةٍ كافيَّةٍ للمرضى، السرقة، النفاق، الهياط، وتَكَسُر العلاقات الزوجية وغيرها. وتحضر فيها أيضًا قضايا فلسفيةٍ ذات صلةٍ بتساؤلات مضنيّة ومن ذلك البحث عن براءة الطفولة المصادرة، وغرائب الأقدار، كيفية الهروب من الواقع، جدوى الجهل أحيانًا، ونعمة الوهم في بعض الظروف، وعلاقة الإنسان بالظل، ونحو ذلك.
وبعض قصص المجموعة تقتات على تناقضات النفس الإنسانيَّة، ولبسها ثوبًا غير ثوبها في أحيانٍ كثيرةٍ. ونلحظ ذلك جليًّا في قصص (كان له أملٌ) و (غبش) و (شاهد عيان)، وغيرها.
نجد في كثيرٍ من قصص (مدخلي) جمالٌ ينقص منه أحيانًا تماس هذه القصَّة مع القصيدة الومضة الشبيهة بشعر الهايكو الياباني، وهذه ليست مشكلة (مدخلي) وحده، بل يقع فيها كثيرٌ ممن يكتبون القصَّة القصيرة جدًا. القصَّة القصيرة جدًا ينبغي أن تعتمد على حدثٍ يبرزه الحكي، والحدث فيها عادةٌ ما يكون مفعولًا من قبل الشخصيّة الرئيسة في السرد، كما أنّها تعتمد على مفارقةٍ تعقب ذلك الحدث، هي نتيجةٌ له، أو ذات علاقةٍ به بشكلٍ أو بآخر. ومثال ذلك نجده في قصة (غمّة):
« يتاجر بأسرار النساء، عند احتضار أمِّه أخبرته أنَّه لقيط».
ونجده في قصة (متبوع):
« نسي برهةً أنَّه رقيقٌ، ألقى أوامره على ظله»
كما نجده أيضًا في قصة (عواء):
«خلق وديعًا. فعل كلَّ شيء ليصبح ذئبًا؛ خانه صوته»
أحسب أنَّ هذه القصص وغيرها ومضاتٍ شعريَّةٍ مكثفةٍ باقتدارٍ على مستوى اللغة والصورة، ولكن لا يمكن أن تعد قصصًا قصيرةً لافتقادها لبعض مكوِّنات وشروط القصة القصيرة.
وهنا لا بد من الإشارة لأمرٍ مهمٍ يغفل عنه بعض كتَّاب القصة القصيرة، وهو أنّ هناك شعرةٌ دقيقةً بين أن يُوُجِد القاص في قصته حدثًا من خلال فعلٍ يقوم بها بطل القصة أو أحد شخوصها، وبين أن تكون القصة بما فيها من حدثٍ أو أحداثٍ مجرد وصفٍ لا أكثر. ولكي تتضح الصورة هنا، أورد هنا نص قصة المؤلف (قصَّاب):
«يبيع لزبائنه بأمانة آكلا لحومهم».
لا نجد هنا حدثًا يعتدُّ به لإنشاء قصةٍ قصيرةٍ. بل وصفًا يصف ممارسةً دائمةً للبطل.
ومثالٌ آخر نجده في قصة (نديم):
«زُرِعَ قلبه لأرملةٍ، يبيت الليل يلاطف وحدتها»
الحدث الذي يناسب القصة القصيرة جدًا لا سيما في لحظة المفارقة / التنوير _في نظري_ قلَّما يكون حدثًا متكررًا أو معتادًا من الشخصية الرئيسة أو الثانوية.
بعض قصص مجموعة (مدخلي) هذه أخلَّت بسمَةٍ مهمةٍ من سمات وفرادة القصَّة باعتبارها مختلفةً عن الرواية وغيرها من الفنون ال أدبية والابداعية، وأعني بذلك سمَّة: (الوحدة الزمانية)، وهذا الأمر نجده جليًّا في قصة (ذاكرةٌ صغيرةٌ) التي يمتد فيها الحدث من زمن طفولة بطلي القصة وسرقتهما شيئًا من البقالة، وحتى مرور سنين عددًا على فقد أحدهما ذاكرته، يقول القاص في تلك القصة:
«..... سنونٌ مرّت على فقدان صالح لذاكرته إثر تلك الحادثة»!
ويتكرر غياب الوحدة الزمنية عند قاصنا أيضًا في قصة (الأقزل):
«شهرٌ كاملٌ مرَّ قبل عودتها»!
الوحدة الزمنية انتفت. ونقاد القصَّة القصيرة غالبيتهم يجمعون على أنَّ الوحدة الزمنية هي الأساس المُمَيْزِ للقِصَّة القصيرة، والقصيرة جدًا عن الرواية وغيرها من فنون الإبداع. كان بوسع القاص تلافي هذا الخلل باستخدام تقنية الفلاش باك أو تقنية الحلم أو التخيل _وقد فعل ذلك في بعض قصصه_، دون التنقل بين امتداداتٍ زمانيَّةٍ تتعارض مع واحدٍة من أهمِّ اشتراطات فن القصة القصيرة، قلَّما يختلف فيها نقادها ومنظروها وهي ضرورة أن تعبر القصَّة عن حدث واحدٍ رئيسٍ حدث وانتهى خلال فترةٍ زمنية قصيرةٍ ومحدَّدةٍ.
وقصة (دَيْن) ليست ببعيدةٍ عما ذكرت آنفًا، حيث امتد زمانها منذ أن كان عمر البطل خمس سنوات، وحتى وصوله المرحلة الجامعيّة.
يميز قصص مدخلي اشتغاله الملحوظ على صنع مفارقاتٍ ملهمةٍ لا تخطر في الغالب على بال أحدٍ، ولا تأتي نشازًا أو تكلفًا، بل تظهر تلقائيةً. لنأخذ مثلًا قصة (هبة):
« ...... تلفتنا بأوجهٍ جامدةٍ خشية أن يشي أحدنا بالآخر»!
وقصة (بَيِّنة) التي ختمت بــ:
«...... ذُهِلَتْ»!
ذيَّل القاص مجموعته بثلاث دراساتٍ نقديَّةٍ مقتضبةٍ أحداهن عن قصته (زبد) كتبها الأستاذ أيمن دراوشة، والأخريتين عن قصته (حدس) كتبهما المهندس عادل جاد، والأستاذ أيمن عبد الملك. وبالرغم مما حوته هذه القراءات من ومضاتٍ ذكيِّةٍ وجميلةٍ استنطقت النصيّْن جيدًا، ألا أنِّي كنت أفضل ألَّا يضمنها المؤلف مجموعته مكتفيًّا بتقديم نتاجه المتفرد للمتلقي، تاركًا له أخذ انطباعٍ عنه دونما تأثيرٍ. وهذه مجرد وجهة نظر ليس من الضروري نجاعتها. وللتذكير فقد سبق للمؤلف إصدار مجموعة بعنوان: (ثمن الحرية) اقتصرت على نصوص (قصصيَّة قصيرةٍ)، وليست (قصيرة جدًا) كما هو الحال في هذه المجموعة.أخيرًا مجموعة مدخلي _بالرغم من أنَّها تعدُّ مجموعته البكر، وفقًا لمحتواها؛ قصص قصيرة جدا_ ألَّا إنَّها تبشر بقدوم مبدعٍ بقوةٍ له حظه الوافر من الموهبة والمهارة والمعرفة بفن السرد. يحتاج فقط إلى طرق موضوعاتٍ أكثر تنوعًا وعمقًا، ومعانقةً للهمِّ الإنساني عمومًا. ولعلَّه يثري تجربته أكثر بالاطلاع المكثف على النتاج الإنساني العالمي في هذا المجال.
مراجع:
(1) مقال للصحفي سمير عطا الله.
(2) صحيفة (الشرق الأوسط) الاثنين - 27 شهر ربيع الثاني 1436 هـ - 16 فبراير 2015 مـ عدد [13229].
(3) مجلة (القافلة). نوفمبر – ديسمبر | 2018.
** **
- خلف سرحان القرشي