د.ثريا العريض
شهدت المملكة خلال الفترة الماضية حراكًا فنيًا وترفيهيًا فاق كل التوقعات، وتفاوتت ردود الفعل المحلية والإقليمية والعالمية في تحليل وتفهم وتقبل التغيرات السريعة في منطقة عرفت بانعزالها الجبري عن المحيط العالمي ومستجداته الثقافية، وبربط الاستقرار برفض التغيير والتحذير من العواقب الوخيمة مجتمعيًا إن سمح بالترفيه والفنون.
ومع هذا ما لا يمكن إنكاره الآن هو تقبل المجتمع لأغلب الفعاليات المستجدة.. ووعيه ومطالبته بالتوازن والانضباط.
نحن محظوظون بحيوية وشمولية الحراك الترفيهي المتعدد المحاور الذي فعلاً فاق في مرحلة زمنية قصيرة كل التوقعات. المجتمع بكل فئاته، أي مجتمع، وليس السعودي فقط، يحتاج إلى ما يملأ وقته من النشاطات المشبعة لاحتياجات الفكر والبدن والعاطفة. وكان من المؤسف قبل التحول الأخير أن المسموح به والمتاح من النشاطات كان محصور المحتوى وتحتكره توجهات وتفضيلات وإملاءات فئة منغلقة على رغبتها في التسلط، وبالتالي كان مقصرًا في إرضاء كل الفئات والأذواق والاحتياجات. فلم يكن من العدل أن ينحرف إثبات الانتماء الفكري إلى أفعال هادمة مثل تحطيم آثارحضارية ومجسمات لها قيمتها التاريخية في توثيق مسيرة حضارات العالم التي شاركت فيها منطقتنا منذ عصور كونية.. أو تسلية الجمهور بصخب تهشيم الأدوات الموسيقية الثمينة المملوكة لأفراد موهوبين يرغبون في ممارسة هواياتهم بسلام. وتقبل ذلك لا يعني خروج الناس عن دينهم وملتهم.
كل تغير عن المتقبل المعتاد يسبب في البداية حساسية لدى فئة أو أكثر من فئات المجتمع ورفضًا ومقاومة من قبل المنتمين لها. ويحتاج التغيير دعمًا من قوى السلطة والقانون لينال فرصة التنامي إلى ممارسة عامة تحل مكان الأسبق.
مثل أغلبية الناس الواعين في هذا العالم الفسيح والثري بمنجزاته وبتعدد مكوناته، نحن مجتمع وسطي. والأمل أن مبادرة التحول وما تتيحه من إشراع آفاق للترفيه بكل تفاصيلها في جميع المؤسسات يمكن أن تسهم في توضيح وترسيخ طبيعة المجتمع السعودي الوسطي المعتدل بعيدًا عن المؤثرات السابقة التي غذت التشدد والغلو ورفض كل ما له علاقة بالترفيه عن النفس فرديًا وجماعيًا مثل السينما والفنون التشكيلية والتعبيرية والأدائية.
وعلى الرغم من كل التحذيرات الصارخة بالويل والثبور إن تغيرت الأمور من التشدد والانغلاق وأعذار الخصوصية المغالية، إلى التعبير عن المواهب والقدرات والتميزات، خطا الترفيه في المملكة خطوات كبيرة متجاوزًا ما كان يعتقده البعض بأنه سيكون مصدر خلاف لا يراعي ثوابت المجتمع الدينية ولا خصوصيته الثقافية.
كيف نجحت المملكة في هذا الجانب الشديد الحساسية؟ العودة إلى الحالة الوسطية هي المتوقع الطبيعي كما هي الحالة مع البندول الذي يمكن دفعه إلى تطرف مفتعل ويعود لحالة التوسط الطبيعي حالما يتوقف الدفع للتطرف. التوازن والاعتدال مطلوب لتحقيق النجاح المؤمل دون السقوط في الانفلات المتخوف منه. وبتوخي إرضاء الفئات المهمشة سابقًا وإستراتيجية الاعتدال وفرض الانضباط ومعاقبة التجاوزات الفردية والكيدية نجحت القيادة وأجهزتها المتداعمة في كبح التفريط.
ومن خلال فتح الأبواب للسياحة وإطلاق البرامج الترفيهية نرى المملكة تحقق نجاحات مذهلة لا ينكرها إلا مكابر، ولا يشكك فيها إلا حقود لدود. ومن خلال فتح المجال لتسهم مثل هذه البرامج الترفيهية الجاذبة في إبراز وتعزيز صورتها الخارجية ومكانتها بين دول العالم، تعرف العالم بتاريخها الثقافي وإمكاناتها العصرية والحضارية. ولنا تاريخ حضاري ممعن في القدم وفي الأهمية في تسلسل منجزات الحضارة الإنسانية عبر الزمن البائد والأحدث. نستطيع أن نقول إننا نحقق خطوات بل قفزات لزيادة القوة الناعمة وقدرة الجذب المطلوبة لتشجيع العالم على زيارة المملكة ومن ثم الاستثمار في مشروعاتها وبناء الرغبة للحفاظ على استقرارها ضمن استقرار اقتصاد العالم.