م. بدر بن ناصر الحمدان
نقطة الانطلاق عادة لا تكون متساوية بين الجميع، لذلك يجب ألا ننظر لأولئك الذين لم يكونوا في المقدمة، على أنهم متأخرون، الفرص غير المتكافئة في حياة الناس عادة ما تُفضي إلى مقارنة غير عادلة عند خط النهاية، الوصول أولاً لا يعني الأفضلية المطلقة، بل ربما البعض ممن حاول وكافح ولم يصل قد يكون أكثر استحقاقًا، عطفًا على بيئة المنافسة التي تختلف من شخص لآخر.
كثير من الذين نعرفهم في محيطنا الاجتماعي يمتلكون قدرات إنسانية كبيرة، ولكن لم تساعدهم الظروف التي تحيط بهم - بمختلف أنواعها - في مواصلة التقدم في حياتهم، أو تحقيق أحلامهم وطموحاتهم، ففقدوا فرص التعليم أو العمل أو الزواج أو بناء منزل، أو علاج، أو العيش في مكان ملائم، وحتى القدرة على توفير حياة رفاه لأسرهم، كثير من هؤلاء خاضوا غمار معارك ضارية في حياتهم، وقدموا تضحيات كبيرة، ومروّا بمواقف صعبة، خاصة أولئك الذين آثروا آخرين من أفراد أسرهم على أنفسهم وتحملوا مسؤولية رعايتهم، وتوقفوا في منتصف الطريق ولم يكملوا الرحلة من أجلهم.
ثمة تجارب ملهمة أعرفها على الصعيد الشخصي، كان لها تأثير بالغ في طريقة بناء الصورة الذهنية عن الآخرين، أحدهم كان طالبًا عبقريًا بكل ما يحمله هذا الوصف من معنى، بعد اجتيازه للمرحلة الثانوية بتفوق، لم يستطع مغادرة قريته آنذاك لإكمال دراسته الجامعية بسبب رعايته لوالديه المسنين وأخوته الصغار، ولأن حالته المادية لم تكن لتسمح أن توفر له مصاريف التنقل والعيش في المدينة، فقرر البقاء، والتحق بوظيفة حكومية أقل بكثير مما يمتلكه من كفاءة، وما يتمتع به من ذكاء، ولم يكن أمامه أية خيارات حينها، قام بتلك المهمة على أكمل وجه، وقدم مثالاً إنسانيًا مشرفًا، وما زال حتى اليوم يصارع من أجل لقمة العيش.
التجربة الأخرى لامرأة تعايشنا مع قصتها منذ أن كنا صغارًا، حكايتها بدأت مع وفاة والديها وهي لم تتجاوز العشرين من عمرها، ووجدت نفسها تعول أربعة من أخوتها الذين لم يكن يتجاوز أكبرهم أربعة عشر عامًا عندما توفيت والدتها ولحقت بوالدها المتوفى في نفس العام، فنذرت كل حياتها من أجل تربيتهم والعناية بهم، لم تكمل تعليمها، ولم تتزوج، ولم تعمل بالوظيفة التي تليق بها، وعاشت شظف عيش لسنوات في كنف المعاناة، حتى كبروا وكل مضى في طريقه وتوقفت هي في آخر محطة، بعد أن فاتها قطار الحياة.
أنا واثق أن ذاكرتكم حُبلى بتجارب أكثر تعبيرًا عن «نقطة الانطلاق» ودورها في تسيير حياة الناس، ورسم نهاياتهم، والأهم من استذكارها أو روايتها، كيف لنا أن تعلم منها أن لا نحكم على حياة هؤلاء الآخرين، من الصورة الظاهرة، دون النظر إلى ما يحملونه بداخلهم من حكايات وذكريات مؤلمة لو سمعناها لما تجرأنا أن ننتقد أحدًا منهم لماذا لم يكمل الطريق، أو لم يكن أفضل حالاً مما هو عليه اليوم، خاصة إذا ما جاء هذه التعبير ممن ولد وفي فمه ملعقة من ذهب، وعاش في برج عاجي منذ أن خرج على هذه الحياة.
هؤلاء الذين نتحدث عنهم لو وجدوا ربع فرصة من التي اتيحت لغيرهم لاستطاعوا أن يتفوقوا وبمسافات بعيدة، لكنها أقدار وأرزاق مكتوبة على هذه الأرض.
لا تلوموا إنسانًا على أي شيء، حتى تعرفوا ما هي نقطة الانطلاق في حياته...!