د. خيرية السقاف
في المقهى النسائي؛ اقتعدت شابة إلى طاولة مفردة في زاوية منه, وحدها لا يرافقها غير أفكارها, وأشياؤها, حيث نثرت تفاصيل صغيرة فوق الطاولة, نظارتها, محفظتها الأنيقة, كوبا من العصير يبدو أنه مجموعة من الثمار الشهية, وبين يديها جهاز رفيق, هو كل نوافذها, وأبوابها, وسجلاتها, ومحفوظاتها, ومبادراتها, صوتها النابض, بسكونها الخلاق..
ذهبت تارة تفكر, وأخرى تكتب وهي تحرك أصابعها بسرعة فائقة كأنها تطوف الدنيا ومعالمها, وما تلبث أن تقف كأنها في محطة سفر تنتظر الإيذان..
لفتني استغراقها, لا تعبأ بمن يمر, ولا بمن يصخب, ولا بمن يأكل, ولا بمن «يغني», ولا بمن يأتي, أو يغادر, وضعها أمامي متاخمة جعلني قسرا أراها, وما كنت أتتبع الناس, ولا أقتحمهم دون إذن, ابتسمت نحوي, ثوان هزت رأسها, ركزت في النظر إلى الجالسين في الجهة الأخرى, وما لبثت أن توقفت عن عالمها الصغير بين يديها, وأجهشت في البكاء..
دفعتني مشاعر الأم إليها, ربَّت على كتفها مستأذنة أن تسمح لي بتهدئتها, أثنيت على جديتها فيما تفعل, ربما هي باحثة, أو طالبة, أو كاتبة, فلديها همة الشغوفين, ودأب الباحثين, وحاجة الطلبة الدارسين, هزت رأسها امتنانا, لكنها عادت لتتشبث بيدي, قالت فجأة: أخرجيني من هنا سليمة, إنني لو نهضت فلسوف أسقط, ساعديني من فضلك ألملم أشيائي, وأغادر, فعلت في صمت احتراما لدموعها...
وعند باب المقهى, حاولت تقبيل رأسي, دون أن تنبت بكلمة, دست شيئا صغيرا في كفي, وركضت بعيدا دون أن أستطيع تفسير أي شيء..
عدت مكاني, فتحت قبضة يدي, بطاقة صغيرة لرقم هاتفها, بحرفين يبدوان من اسمها..
ما إن وصلت بيتي, هاتفتها, ردت بلهفة: كنت على يقين بأنك ستطمئنين عني, أشكرك..
سألتها إن تحسنت حالتها بعد؟, لكنها أخذت تقرأ في أذني ما كانت تكتبه, فقد كانت تسجل قصتها في دائرة عملها, كيف تسلطت عليها رئيستها, كيف سلبت جهدها وأسندته لاسمها, وأنكرته لها, كيف جعلتها في اكتئاب, وحطمت طموحها, وهمتها, وهي التي تصوب لها لهذه الرئيسة ما تخطئ فيه, وتضيف إليها ما تعجز عنه, وتؤدي عنها صعاب الأدوار, وكيف حصلت رئيستها على جائزة تميز هي أحق بها حين سرقتها أفكارها, ونتائج عطائها, وجهد إخلاصها, وكيف, وكيف..
ثم ختمت حديثها معي بطلب وحيد, سألتها أن تفضي به, قالت: اكتبي عن الذي أسمعتك, لقد هربت في المطعم عنها, هي التي كانت تجلس في الجهة الأخرى, رئيستي المتسلطة, سارقة الجهد, محطمة الآمال لا أطيق رؤيتها..
ثم ختمت: لقد عرفتك, كنتُ طالبة في الجامعة حيث كنتِ..
وأنهت بالتحية العجلة المكالمة قبل أن أتعرف اسمها..
«م.م» ذكرتني بهموم ذوي الكفاءات الذين يتسلط على جهودهم رؤسائهم الأنانيون..
وليس لمساطر الفساد سبيل إليهم, ذلك لأن ليس كل فساد يمكن الاستدلال عليه..
فكيف يخرج المظلوم من براثن الظالم حين لا شاهد معه, ولا دليل على رئيسه؟!..
«م.م» شكرا للثقة, ولن تخذلك همتك التي رأيت, وقدرتك التي لمست, وطموحك الذي لا تزال سنوات عمرك تأخذك به نحو الفلاح.. ولسوف تصلين فلا تيأسي..