د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** أبلغه صديقُه الباحثُ الأستاذ محمد بن سعود الحمد أن معجمَه للسير الذاتية يوشك على الصدور، وفاجأه بأنه رصد فيه «سبعة آلاف ومئتين وخمسين» سيرةً ذاتيةً عربية، وهو رقم مدهش، والمتوقعُ تجاوزُ هذا الرقم عند صدور الكتاب مع معرض الرياض القادم؛ فالزمنُ أعطى السير الذاتية مكانًا بجوار الرواية التي يتقنعُ بعضُها بأغلفة السِّير مثلما تحتمي بعضُ السير بالسرد، وكنا نشكو من ندرتها فكدنا نسأمُ من وفرتها.
** في الأمر خيرٌ دون ريب؛ فالسيرُ كاشفةٌ لمن يقرأ عَبْرها ويضيءُ من عِبَرها، وقلةٌ من يجيد فنّها، وثلة يُعرُّون خفايا صدورهم في سطورها فيستمطرون شكرًا أو نُكرًا، والصامتون - من ذوي السير الملأى - مترددون أو محجمون، وسأل صاحبكم أستاذيه الكبيرين فهد الدغيثر 1936-2012م، ومحمد الطويل 1942م - وهما علامتان بل مَعلمان إداريان - أين سيرتاكما؟ ولم يكونا معًا؛ فاتفقا على أن ما يستحق القول لا يقال، ولا وزنَ لما هو أقل، والأمرُ نفسُه مع غيرهما من ذوي التجارب العريضة ذات الأمداء والأصداء، وفي العازفين عن عرض تجاربهم من هم أجدر وأقدر، والشيخ جميل الحجيلان 1947- أنموذجٌ على السيرة المتأنية التي كتبها صاحبها على مدى عقود وراجعها في سنوات، ولعلها تحفز «المتهيِّبين» لنشر أوراقهم؛ فهم شواهدُ على مراحل مجتمعية وثقافية وتنموية متعددة الاتجاهات والحكايات والتحديات.
** السيرة الذاتية مرتهنة بأنوات كتبتها، وفيهم مذكِّرٌ ومدَّكر، ومحرقٌ بخور نفسه ومنكرٌ ظُهورٍ نفيسه، ومؤتمنٌ كريم ومدّعٍ سقيم، ورائدٌ يرقى فيرتقي وآخرُ ينتقي ويتّقي، وفي بعض السير جنايةٌ وفي بعضها جنى، ومنها تمجيدٌ وترديد، وتضخيم وتعتيم، ومبالغة في دعاوى البطولة وتكثيف لضحالة الأنوية، وفيها ما لا قيمة موازية لوقت قراءتها ولن تخلد كي تدوم روايتُها.
** يبقى الرقمُ المطبوع من السير العربية كبيرًا، وسننتظر صدور المعجم الذي قد ييسرُ على الباحثين مراجعتَها ويهيئ للسِّيْريين» القادمين الإقدامَ أو التراجعَ عن مشروعاتها؛ فالبونُ بين «الأيام» والأحلام يقلق المتورمين ويضاعف المتبرمين.
** احترقت دعاوى العصامية؛ فالأجيال التي وُلدت قبل الطفرة عانت بصورةٍ تكاد تكون مستنسخة، وبات حديثُ الذات عن الذات مصدرَ ضجرٍ وسخرية، وكذا فالسيرة ليست لرصد إنجازات وملء فراغات، وفيها ما يحتاج إلى توثيق وتدقيق، وفي كثيرٍ من السير الغربية التي يتصدى لها الكُتابُ المرئيون و»غيرُ المرئيين
Ghostwriters»
من لا يضعون معلومةً لمن يكتبون عنهم إلا بعد الاستئناس برأي عدد من معاصريهم؛ كي يتبيَّنوا صحتَها، وهو نهجٌ لو طُبق في الأدبيات العربية لصدر عُشر السِّير أو أدنى.
** حكى الفيلسوف والعالِم البريطاني «برتراند رسل 1870-1972م عن « العالَم كما رآه» وقال: إنه لاحظ أن شعره الأبيض زاد في تصديق الناس له، والظن أننا سنصدِّق ذوي القلوب البيضاء، وقليلٌ ما هم.
** السيرةُ وصلٌ والروايةُ فصل.