د.محمد بن عبدالرحمن البشر
نكتب في هذه المقالات المتتابعة عن حال المورسكيين، وهم المسلمون الذين بقوا في إسبانيا وتنصروا مجبرين، لهذا فقد كانوا دائماً محل ريبة لدى النصارى القدامى، وكان الإقطاعيون يحاولون حماية المورسكيين لكفاءتهم في الزراعة والمهن الحرفية الأخرى، ويجاور الإقطاعيين في أراغوان، مجموعة من رعاة الخراف النصارى المعروفين باسم الجبليين، وصلوا إلى المنطقة بعد أن تم طرد المورسكيين المسلمين الذين أبوا الدخول في النصرانية، فكانت السهول الخالية جاذبة لقدوم هؤلاء مع خرافهم للرعي الشتوي.
في عام 1585م، حدث حادث عرضي بسيط، يمكن أن يحدث في أي مكان، فبعد نزاع بين مورسكي - أو ما يسمون بالنصارى الجدد، أو أسماء أخرى لا تليق ولا يجد بنا ذكرها - مع نصراني قديم، قام المورسكي لتفوقه في القوة بقتل ذلك الراعي النصراني، في قرية تسمى كودو، وانتقاماً لمقتله قام أخوه وعدد من جيرانهم الرعاة، بقتل عدد من المورسكيين وهم عزل في طريقهم إلى الحقول.
في ظل هذه الأجواء المليئة بالحقد، وربما أهداف سياسية من الحكم الإسباني آنذاك، ظهر في الساحة رجل يقال له السيد/ لاتراس كان ضابطاً بحرياً إسبانياً سابقاً، وجاسوساً سابقاً يعمل لحساب المملكة الإسبانية في البلاط الإنجليزي، كما تزامن ظهوره مع نزاع قضائي متواصل بين قشتالة، ومحاكم أراغون وجميعها تحت تاج واحد، لكن تحت إدارتين مختلفتين.
جمع السيد/ لاتراس حوله مجموعة من قطاع الطرق ونادى بالانتقام من المورسكيين، والخلاص منهم، وفي عام 1588م دخل السيد/ لاتراس وأتباعه من الجبليين وقطاع الطرق، قرية كودو وأحرقوا القرية، بعد أن فر أهلها، ثم مالوا إلى قرية بيتا المجاورة والمختلطة بين النصارى والمورسكيين المسالمين والآمنين، وجمعوا المورسكيين، وقتلوهم ورموا بجثثهم من فوق برج الدير المحلي، وقد تم ذلك في عيد الفصح لهذا فاقتران رميهم من الدير بعيد الفصح، ربما يكون تقرباً بهذا الفعل إلى الرب، كما كانوا يعتقدون، أو أن اختيار هذا التوقيت إيحاءاً للعامة بأنه حفاظٌ على الدين، وليس لهدف سياسي أو اقتصادي.
كان السيد/ لاتراس يحث أتباعه على اجتثاث المورسكيين الذي يراهم نبتة فاسدة في بستان وارف الأغصان، وخشيت السلطات الأرغوانية من تفاقم الوضع، فأرسلت بعد موت الكثير من المورسكيين، قوات لفرض النظام، وقبضت على القيادات المساعدة للسيد/ لاتراس، كما أخذت بعضاً من المورسكيين، وأعدمتهم، أما السيد / لاتراس فقد فرَّ ونجا من العقاب، أو ربما سهل له أمر الهروب بطريقة أو أخرى.
ونراه بقدرة قادر، يظهر في البلاط الملكي الإسباني الهاسبيرجي الحاكم، ليرسل في مهمة تجسسيه أخرى على البلاط الإنجليزي، لكننا لا نعلم مدى نجاحه التجسسي وفائدته، غير أنه بعد عودته تم قتله، بهدوء، ولا أحد يعرف كيفية التخلص منه، إلاَّ أن ذلك قد تم في عام 1590م.
الحقيقة أن عدد ما بقي من المورسكيين المتنصرين في إسبانيا في نهاية القرن الخامس عشر لا يزيد عن سبعين ألف نسمة في وقت كان يقطن إسبانيا ستة ملايين ونصف من البشر، لهذا فإن هذا العدد المحدود من المورسكيين البائسين الذي يعملون بغالين، وهي مهنة يترفع عنها النصارى القدامى، ويتركونها لهؤلاء البائسين الذين يطلقون عليهم الأراذل، مع كل أسف، كما أن بعضاً من المورسكيين يعملون في الحوانيت والبستنة والري التي يجيدونها إجادة مبهرة، ويتغلبون على النصارى القدامى في المهارة والإتقان بدرجة عالية جداً.
يلاحظ القارئ الكريم أننا نطلق اسم النصارى القدامى على غير المورسكيين، من الأسبان، لأن المورسكيين هم في الحقيقة أسبان، فقد عاش أجدادهم ثمانمائة عام على التراب الإسباني، وأشبعوا عقول من سبقهم، بالعلوم والثقافة والرقي، وأما كون أجدادهم قد وفدوا إلى هناك قبل ثمانمائة عام، فإن القوط الذين كانوا حكاماً لشبه الجزيرة الأيبيرية، إسبانيا والبرتغال وغيرها، هم وافدون أيضاً ولم يكونوا إسباناً، كما أن الملك فيليب نفسه ليس إسبانياً فهو من عائلة هابسبورج السويسرية الأصل، والذي يقال لهم آل النمسا لأن جدهم الأبعد نقل عاصمة ملكه إلى فيينا، وقد وصلوا إلى حكم إسبانيا قبيل بداية القرن، من خلال السيدة/ خوانا المجنونة ابنة الملكيين الكاثوليكيين فرديناند، وإيزابيلا، الذين سقطت على أيديهم غرناطة، وانتهى بذلك الحكم الإسلامي في الأندلس، عام 1492م ، وتوفيت إيزابيلا عام 1504م.
إن قصة السيد/ لاتراس وظلمه ليست الوحيدة التي حدثت بل آلاف القصص المأساوية التي سطر التاريخ بعضها، وأهمل لسبب أو لآخر الكثير منها.