د.عبدالله بن موسى الطاير
ليست هناك نوايا حسنة ومجانية في السياسة. هناك نوايا طيبة مدفوعة الثمن، وبعملة المصالح. المشكل ليس في المصالح وحدها، ولكن فيما يسمى القيم المشتركة. علاقة ألمانيا بفرنسا ليست مثالية، ولكنّ البلدين يتفقان في ملفات استراتيجية، تجعل منهما رافعة الاتحاد الأوروبي.
العلاقات الإيطالية - الفرنسية ليست بخير، ومع ذلك فإن مصالحهما في الاتحاد الأوروبي، والقيم المشتركة بينهما تُبقي العلاقات مترابطة، بغض النظر عن نوايا كل بلد تجاه الآخر. العامل الذي يجعل من المصالح والقيم المشتركة أدوات فاعلة في إيجاد حلول سلمية للنزاعات، ويستبدل الحوار بالنيران المتبادلة، هو تقدُّم مستوى الوعي.
الدول الصناعية الديمقراطية تربطها مصالح بالدول الغنية في منطقة الخليج، وكثير من المصانع مفتوحة، والوظائف مؤمَّنة لمواطنيها بفعل التسلح والاستهلاك الخليجي، ومع ذلك لا تشكّل العلائق التجارية وشائج كافية لادعاء علاقات قوية بين الطرفين؛ فما زال المانع الرئيس الذي يحول دونها هو القيم المشتركة. هذه دول إسلامية، وتلك مسيحية. وهذه تحكمها أنظمة قائمة على الفرد، وتلك ديمقراطية. وهذه تفتقر - من وجهة نظر الآخر - إلى التعددية والحريات وحقوق الإنسان، وتلك تُعلي من شأنها.. ومع ذلك فإن الخلافات التي تنشأ بين الطرف الشرقي والآخر الغربي غالبًا ما تنتهي بحلول سلمية، وبعض الإجراءات السياسية.
أمريكا والدول المصنِّعة للسلاح يهمها أن تمسك بخيوط اللعبة، وليس من مصلحتها إطلاق صفارة النهاية. والدول الصناعية التي تصدر سلع الاستهلاك كالصين يهمها رخاء المستهلكين واستقرارهم. وبين تعدُّد الإرادات، وتنوُّع المصالح، وتنازع النفوذ، تقول السياسة كلمتها بإبقاء الجميع على مسافة واحدة بين السلم والحرب. لكن تذكروا أن الوعي هو المناخ الذي تعمل فيه السياسة بفاعلية.
إنَّ الدول التي تتعاطى السياسة لا تتخذ قراراتها على نحو عاطفي، وفي أحلك الظروف يمكن لها أن تجد سبيلاً للقاء. وفي ظني إن أمريكا وإيران ضربتا مثلاً جيدًا عندما قطفت أمريكا روح قاسم سليماني، وردت إيران بعدد من صواريخ الخردة على القاعدة الأمريكية في عين الأسد بالعراق، ولم يصب أحد، وفجأة تحول الوعد والوعيد إلى وعود بالتهدئة وتكرار أمريكي بعرض الحوار. لو كانت دولة إسلامية أو عربية هي التي قتلت قاسم سليماني لكانت الحرب هي وسيلة التفاهم وليس غيرها.
قواعد الاشتباك، وفضه، وإدارة المصالح واحتواء الأزمات، لا تصدق عندما يكون الخلاف عربيًّا عربيًّا، أو عربيًّا إسلاميًّا، أو إسلاميًّا إسلاميًّا. الأمر يصبح غاية في الهمجية بحيث يستدعي كل طرف عقد الماضي وثارات الأمس؛ فتقوم بينهما النزاعات، لا على قدر المشكل الماثل بينهما، وإنما على أساس التراكمات المتوارثة؛ ولذلك تولد الخلافات كبيرة لاستنادها إلى إرث من التناقضات الدينية والثقافية التي يفترض أن تكون قيمًا مشتركة بين الفرقاء. القيم السامية التي جاء بها الإسلام لا تجمعنا بقدر ما يوحد التخلف بيننا!
هذا يتمشق أسلحته الفتاكة التي اشتراها من بلد ليس بينه وبينه قيم مشتركة؛ ليضرب بها جارًا يتقاسم معه تلك القيم، ويرفع عقيرته بالتكبير واستدعاء آل البيت والصحابة والتابعين.. وذلك يعلن حملته المقدسة، ويستدعي التاريخ بفِرقه وطوائفه وأوليائه، إلى آخر المنظومة التي تحللت عظامها، ودرست مساكنها، وبقيت على الرغم من ذلك تحرِّك حروبنا، وتثخن في علاقات المسلمين بعضهم ببعض.
إذا كان الدِّين لا يحول بيننا وبين قتل بعضنا، واللغة لا تشفع لنا في الحديث مع بعضنا، والقيم المشتركة لا تعبِّد طريق التفاهم بيننا، والمصالح تعمل في كل خلاف إلا في خلافاتنا، فأي وعد تنتظره البشرية من وجودنا؟ نحن فعلاً حالة غريبة، وعالة على غيرنا؛ فلا مصانعنا تُنتج، ولا جامعاتنا ومعاملنا تخترع، ولا مشافينا تداوي، ولسنا مؤهلين لاحتواء خلافاتنا بالتفاهم.. البعض يحيل وضعنا البائس إلى نظرية المؤامرة! بيد أن الكثير من الشواهد تكذِّب هذا الادعاء.
نحن ببساطة متخلفون، ولا يمكن لنا أن نتحرك قيد أنملة في تغيير حالنا إلا إذا اعترفنا بأننا متخلفون، وأن التخلف مشكلة؛ يجب البحث عن حلول لها. بدون الاعتراف بالمشكل سوف نواصل الضياع حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولاً.