د.سالم الكتبي
فارق كبير بين سلوك الدول وممارسات التنظيمات والميليشيات التي تتسم بقدر كبير من العشوائية وسوء الحسابات، بغض النظر عما يثار حول دقة وقدرات وإمكانات أي تنظيم أو ميلشيا، كالحرس الثوري الإيراني وغير ذلك؛ حيث تبقى التنظيمات والميليشيات كيانات مصطنعة قائمة على أفراد وهياكل تتسم بقدر كبير من العشوائية وعدم الانضباط والفوضى أحياناًً، رغم ما يبدو على السطح من ظاهر الأمور، ولكن تبقى للدول والجيوش النظامية قواعدها وتقاليدها المتوارثة التي تنظم العمل المؤسسي وتحدد بدقة سلطة اتخاذ القرارات العسكرية والإستراتيجية، لاسيما الحساسة منها.
ولا شك أن المأزق الذي وقع فيه نظام الملالي الإيراني في الوقت الحالي جراء إسقاط طائرة الركاب الأوكرانية ربما يفوق فيه تأثيراته عواقب الأزمة الحاصلة بسبب مقتل الجنرال قاسم سليماني، حيث بات يتعين على الملالي دفع فاتورة تحجيم دور الجيس الإيراني وبناء ميليشيات موازية بات لها الكلمة العليا في تشخيص مصلحة النظام والدفاع عنه ضد ما يراه جنرالات هذه الميليشيا وقادة النظام من تهديدات!
ورغم الجهود التي بذلها الملالي لاستغلال مقتل الجنرال قاسم سليماني إثر ضربة صاروخية أمريكية استهدفته ومرافقيه من الحرس الثوري الإيراني والحشد الشعبي العراقي قرب مطار بغداد، وجهودهم في توظيف الحدث في صناعة حالة وهمية من الالتفاف الشعبي حول القيادة الإيرانية، والمساعي الهائلة التي بُذلت في هذا الاتجاه ولاسيما اللعب على وتر العاطفة القومية الفارسية والطواف بجثمان سليماني في مختلف المدن الإيرانية، فإن هذه «الفورة» سرعان ما انقشعت وزالت عقب تأكد دور الحرس الثوري في إسقاط طائرة مدنية أوكرانية، وإقرار طهران بذلك باعتباره حادثًا بطريق الخطأ.
استشعر الشعب الإيراني بحسه التاريخي ما يحاك له من قيادته، وأدرك على الفور خطورة الأخطاء الجسيمة التي تقع فيها جراء سوء الحسابات والتسرع في اتخاذ القرار وعدم الانضباط وفقدان السيطرة على ميليشيات الحرس الثوري، ما تسبب في إسقاط طائرة ركاب مدنية معظم ضحاياها من الإيرانيين، فاندلعت في المدن الإيرانية تظاهرات حاشدة قد لا يكون لها تأثير فوري في إسقاط النظام، ولكنها رسالة مهمة لا تقل عن الرسالة الرادعة التي تلقاها من الجانب الأمريكي، ما يعني أن هناك حصاراً داخلياً وخارجياً مزدوجاً بات يعاني منه الملالي، الذين فقدوا بوصلة القيادة وحساسية إدارة الأزمات في الآونة الأخيرة، لأسباب عدة بعضها يرتبط بالتأثير القوي المتراكم والمتسارع للعقوبات الاقتصادية الصارمة التي تفرضها إدارة الرئيس ترامب على إيران، وبعضها الآخر - وهو الأقل تأثيراً - يعود لمفاجأة الاستهداف الأمريكي المباشر للجنرال قاسم سليماني، وهو القرار الذي أربك القيادة الإيرانية وأفقدها صوابها وتسبب لها في كارثة على مستوى اتخاذ القرار.
أعتقد جازماً أن قمة هرم السلطة الإيرانية، المرشد الأعلى علي خامنئي ربما لم يواجه اختباراً صعباً كالذي مر به في واقعة مقتل الجنرال قاسم سليماني، حيث بدا الجميع مرتبكاً عاجزاً على تنفيذ التهديدات التي ترد على ألسنتهم، ومن ثم جاءت التصريحات متباينة وتفتقر إلى قواعد لعبة توزيع الأدوار التي اشتهر بها الملالي لعقود وسنوات مضت.
الحقيقة أن الضغوط التي يواجهها الملالي في اللحظة الراهنة هائلة، فالولايات المتحدة، على سبيل المثال، لم تكتف بردع عسكري حاسم للملالي بضربة صاروخية واحدة، بل تخلت عن قدر كبير من التحفظ والدبلوماسية وأعلن الرئيس ترامب للمرة الأولى أنه يقف إلى جانب الشعب الإيراني، وأن الولايات المتحدة «تتابع من كثب» الاحتجاجات الشعبية التي اندلعت في إيران عقب الاعتراف بإسقاط الطائرة الأوكرانية؛ وكتب الرئيس ترامب على تويتر «إلى الشعب الإيراني الشجاع الذي يعاني منذ فترة طويلة: أنا بجانبكُم منذ بداية رئاستي، وستظل إدارتي إلى جانبكم». وأضاف «نحن نتابع تظاهراتكم عن كثب، وشجاعتكم تُلهمنا»، وهذا يعني رهان أمريكي كبير على قدرة الشعب الإيراني على إسقاط نظام الحكم، ودخول الرئيس ترامب بنفسه على الخط يوحي بأن هناك نارًا تحت الرماد.
وزير خارجية بريطانيا من جانبه اتهم السلطات الإيرانية باحتجاز السفير البريطاني لدى طهران «لفترة قصيرة»، وقال دومينيك راب «إن اعتقال سفيرنا في طهران دون مبرر أو تفسير يعد انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي»، وهو حدث يعكس ارتباك الملالي وفشلهم في إدارة الأزمة، لاسيما بعد انكشاف خوفهم وضعفهم عند اتخاذ قرار الرد العسكري على مقتل سليماني وتنفيذ تهديداتهم التي تسببت في رفع سقف التوقعات بشكل مبالغ فيه لدرجة أنه لم يكن أحد من الخبراء والمتخصصين يتصور أن قادة النظام واعون لما يصدر على ألسنتهم من كلمات وتهديدات عجزوا عن تنفيذ ولو جزء بسيط منها بسبب خشيتهم من قسوة الرد العسكري الأمريكي، فاختاروا الظهور بمظهر الضعيف بدلاً من إطاحة النظام كله!
الحقيقة أن نظام الملالي يقف في مفترق طرق حقيقي ويبدو في أحوج ما يكون إلى البراجماتية السياسية وما يشتهر به من واقعية وحسابات مصالحية، فكل الدروب تبدو مغلقة تماماً أمام المسار الذي اختطه الملالي لأنفسهم في السنوات الأخيرة، وهناك حالة من الرفض والغضب الإقليمي والدولي لدورهم التوسعي وتهديداتهم التي تسببت في تفشي الفوضى والاضطرابات في الشرق الأوسط، وهناك في المقابل خيار عقلاني يقضي بالحفاظ على ما تبقى من هيبة النظام ومكانته ولملمة شتات الأزمات والتراجع عن مخططات الفوضى والأذرع الطائفية التي يمكن طي صفحتها بمقتل مهندسها ومؤسسها قاسم سليماني، واعتبار الحدث لحظة فارقة لإعادة الحسابات ومراجعة الذات والتخلي عن الكبر والعناد وإعلاء مصلحة الشعب الإيراني الذي يستحق حياة آمنة مستقرة، واتخاذ قرار شجاع بتعديل المسار وإعادة رسم الإستراتيجية وتبني قرارات وسياسات مغايرة لتهدئة الأجواء الإقليمية وفتح صفحة جديدة مع الجوار وإعلان الالتزام بمبادئ القانون الدولي والتخلي عن كل ما تسبب في حالة العزلة الاقتصادية والسياسية غير المسبوقة التي يعاني تبعاتها الشعب الإيراني.
أعلم أن ذهنية الملالي ليست قادرة على اتخاذ قرارات شجاعة أو جريئة في توقيت حساس كهذا، لأن النظام يقتات على الأزمات وليس لديه مشروع تنموي حقيقي يقدمه للشعب الإيراني، وأنه يخشى لحظة الحساب والمواجهة مع الشعب، ولكن العقل والمنطق يقولان أن هذه اللحظة آتية لا ريب فيها، وأن الأمر بيدهم لا بيد غيرهم سيوفر لهم ولو بقايا فرص للإفلات من مصير نراه قادمًا لا محالة؛ وابسط اعتذار للشعب الإيراني عن أخطاء الملالي هو امتلاك شجاعة تصحيح المسار وتصويب السياسات بدلاً من استمرار العناد وتحميل الشعب بأكمله فاتورة أخطاء الميليشيا في إسقاط الطائرة الأوكرانية وانتهاك سيادة الشعوب والدول الأخرى.