د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** ليس حديثًا عن «نجيب بن عبدالرحمن الزامل» - عليه رحمة الله - (فبالرغم من العلاقة الأسرية التي تربطنا إلا أن تواصلنا محدود، والتقصير من صاحبكم؛ إذ دعاه أبو يوسف لمناسبات وأضاءه بفجريات)، ولكنه حديثٌ عن تظاهرة المحبة التي لقيها «هذا الإنسان» في حياته وتضاعفت بعد رحيله فعدم الذامَّ حيًا وميْتًا، ولا سرَّ غيرُ الحب الذي أعطاه فلقيه، والخيرِ الذي بذله فناله، والطيبةِ التي قدَّمها فتقدم بها، وعاش- من غير أن يُعمَّر- أنموذجًا لمن شاء أن يسموَ ذكرُه ويخلد أثرُه.
** ارتحل إلى الرفيق الأعلى، وهو الأرحم والأكرم فندعو له، وثمَّ مقاربةٌ تتقاطع مع المقولة المنسوبة للإمام أحمد بن حنبل 164-241هـ - رحمه الله - في وزن قيمة الشخص بيوم الجنائز كما روى عبدالله بن أحمد عن أبيه: «قولوا لأهل البدع: بيننا وبينكم يوم الجنائز»، والظن أن دقائق التشييع دلالةٌ مجردة؛ فقد يكثرون في تشييع من لا يستحق ويقِلون بحق من هم أحق، ولهذا عواملُ دنيويةٌ تخصُّ ذوي الجاه والمنصب والعُصبة ونحوَهم، ولكن لعل «اليوم» يشمل كذلك ما يُتداول ويُتناقلُ في المجالس والوسائط وعبر الكتابات والمؤلفات عبر المدى، وفي ذوي الخير من لا يُعلم عنهم فيغادرون بصمت دون مشيعين.
** الموتى يحتاجون إلى الدعاء والبر والصدقة، وسيجدها من بذروا الحُبَّ وأشاعوا التسامح وخدموا الناس دون منٍ أو أذى، ولن يكون ذووهم وحدهم فسيشاركهم أقاربُ وأباعد، ومن دنَوا منهم ومن نأوا عنهم، وستظل ذكراهم متجددةً متمددة، أما غيرُهم فلعلهم يستقُون دروسًا ويعتبرون نفوسًا، والكهوفُ ملأى بمن ارتضوها قاعًا وإيقاعًا.
** الموت حكايتنا أو نحن حكايته، لا فرق، وفينا من لا يعي معنى الموت لأنه لم يعِ قبلًا معنى الحياة؛ فاستوى عنده النور والديجور، وتوهم متعتَه بالإيذاء وألقَه بالإطفاء وتميزَه بالإلغاء، ولو تأمل لأيقن أنه آذى ذكره وأطفأ فجره وألغى شكره، والملفات لا تُقفل بالوفاة، والتاريخ شاهدٌ والتقنية شواهد، ويوم الجنائز ليس يومَ التشييع فحسب، بل هو أيام الدعاء وأعوام الوفاء، ولو تخيل الإنسان مآله لأعاد حساباتِه وقسا في حسابه.
** ساكنو الكهوف أكثر ضجيجًا فهم يثيرون الغبار ويرمون الحجارة فيسيئون ثم يُرمسون، لكن ساكني الأعالي يورقون بغيماتٍ ويشرقون بـ «أمطار»، ولا يبقى بعد الموت - كما قال مصطفى صادق الرافعي 1880-1937م - إلا «صوتُ الضمير»، والمؤدى أنه لن يُجبرَ أحد على تملقٍ ولن يحتاج إلى تسلق، وربما انكفأ المادح فقدح، وغابت المجاملة للمجايلة فاسترخى الكلام وساد المنام.
** سيخبو صوتٌ وتضجُّ أصوات، وسيواجهُ كلٌ مصيرَه ولن يجد نصيرَه؛ فلن يغدو البحر أفقًا لغريق، ولن تضيء الشمس في عمق الحريق، وستغدو النوافذُ مستباحةً، ولن يأمنَ من لم يُؤمن.
** وضع «نجيب» في أعلى صفحته بتويتر: (أحبكم) فأحب متابعيه برفق وأحبوه بصدق، وهل نحن إلا قلبٌ وقرب.
** الرحيل محكمة.