الرياض - كمال حسن:
تصاعدت وتيرة الدعوة داخل النخبة في المملكة العربية السعودية في السنوات الأخيرة لإحياء دور الوقف الخيري في عملية التنمية الشاملة، وتزايدت دعوات تحويل الأوقاف إلى مؤسسات مانحة تخدم المتبرع والمستفيد منها، وإنشاء شركات متخصصة في إدارة الأوقاف وحسن اختيار الواقفين للنظار، بجانب استقطاب أوقاف جديدة لتلبية احتياجات المجتمعات الإسلامية.
وفي الدراسة المعنونة: «ثقافة الوقف في المجتمع السعودي» رصد الإعلامي والباحث سلمان بن محمد العُمري، عبر 12 مبحثاً، قضية الوقف في المجتمع السعودي بين التقليد ومتطلبات العصر، وتناول المبحث الأول: (الوقف وإنسانية حضارة الإسلام)، والثاني: (مقاصد الوقف الإسلامي وأبعاده)، والثالث: (الوقف بين الأصول الشرعية والتطبيقات المدنية)، والرابع: (علاقة الوقف بمصلحة الأفراد)، والخامس: (أوقاف النساء «رؤية في دور المرأة الحضاري في الوقف»)، والمبحث السادس: (الإعلام ودوره في تنمية وفاعلية الأوقاف).
أما المبحث السابع فحمل عنوان: (أثر الوقف في بناء الحضارات والأمم الأخرى)، والثامن: (أثر الوقف في بناء الحياة الاجتماعية في المجتمعات الإسلامية)، والتاسع: (نبذة عن تاريخ الوقف وأثره في المملكة العربية السعودية)، والعاشر: (تنمية فكر الواقف والصيغ التنموية الجديدة للاستفادة من الوقف واستثماره)، والحادي عشر: (مشكلات الوقف في المجتمع السعودي بين التقليد ومتطلبات العصر)، فيما عنون المبحث الأخير: بـ(آثار الوقف في رعاية المجتمع وتنميته والحفاظ على الأصول).
رؤية متميزة
وقدم للكتاب معالي الشيخ صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ، تطرق فيها إلى الثمار التي جنتها الأمة الإسلامية من الأوقاف في العصور الماضية، داعيا إلى إنعاشها وتطويرها والعناية بها، وعرج على دور الوقف في المملكة، حيث أشار إلى اهتمام الملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود بالأوقاف، كبناء المساجد وشؤونها، وإنشاء إدارات للأوقاف في كل من مكة المكرمة والمدينة المنورة وجدة، فيما سار أبناؤه الملوك والأمراء على أثره في أعمال الخير، وتابعوا الاهتمام بالأوقاف ورعايتها وتنظيمها، إلى أن تم إنشاء هيئة عامة للأوقاف.
ووصف آل الشيخ الكتاب بأنه متميز، ونافع في بابه، وفيه رؤية من منظور اجتماعي شرعي، وفيه دعوة إلى إحياء الوقف والعناية به، كما أن فيه بياناً في تنوع الواقفين في أعمال البر؛ فهو لبنة نافعة في «الوقف».
إهداء إلى الأثرياء
وقبل أن يغوص الباحث في غمار دراسة قضية توظيف الوقف تنمويا بطريقة عصرية أهدى الكتاب إلى الأثرياء، الذين يؤثرون على أنفسهم في سبيل إسعاد المساكين والمحتاجين، وإلى الذين يبتغون وجه الله تعالى في أعمالهم الخيِّرة، وإلى الذين يطمعون أن تستمر بعد وفاتهم فاتجهوا إلى الصدقات الجارية إلى سنة الوقف الإسلامي، فأسهموا في بناء صروح العلم والمعرفة عن طريق المساجد والمعاهد الشرعية، وسائر أعمال البر، وأيضاً إلى المخلصين؛ ليكون هذا الكتاب تذكرة لهم في أنواع الخيرات والمبرات.
وفي تقديمه للدراسة أقر المؤلف بتواضع دور الوقف في الوقت المعاصر، رغم دوره العظيم في تاريخ الإسلام، وأثره في دعم التنمية والعمل الخيري، وتحقيق نهضة وتقدم المجتمع، حيث شرع الإسلام لتحقيق التكافل الاجتماعي مجموعة من التدابير: الوقف، بجانب زكاة المال، وصدقة الفطر، والوصية، والكفارة، والذي يعني التنازل عن ملكية المال مؤبداً لله تعالى، من أجل أن ينتفع به الناس، وذلك كوقف المساجد ليصلي فيها الناس، ووقف المدارس، ووقف مياه الشرب في الطرقات والأسواق.
وأشار إلى ترغيب الإسلام في الوقف، حيث اعتبره من أفضل الطاعات المستمرة التي يتقرب بها المسلم إلى خالقه -عز وجل-، روى مسلم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له». قال أهل العلم: الصدقة الجارية هي: الوقف.
ورصد موقفاً نبوياً داعياً للوقف، وذكر رواية عن النسائي والترمذي أنه لما هاجر النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة لم يكن فيها ماء حلو عذب سوى بئر (رومة)، وكانت لرجل شحيح النفس، يغالي في بيع مائها، فرغب النبي -صلى الله عليه وسلم- في شرائها قائلاً: «من يشتري بئر رومة بخير له منها في الجنة»؟
فاشتراها عثمان بن عفان بخمسة وثلاثين ألف درهم، فقال النبي: «اجعلها سقاية (سبيلاً) للمسلمين وأجرها لك، ففعل».
وشاع الوقف بين الصحابة -رضوان الله عليهم-، وانتشر بعد ترغيب النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى قال جابر بن عبدالله -رضي الله عنه-: «لا أعلم أحداً من الصحابة كان ذا مقدرة ومال إلا وقف مالاً في سبيل الله». وكان من جملة ما وقفوه: المساجد، والآبار، والمزارع، والبيوت، وأدوات الجهاد.
وللوقف في الإسلام غايتان كليتان: إحداهما دينية تعبدية للتقرب إلى الله تعالى بما يوقفه من أعمال البر، التي يستفيد من ثوابها ما دام الناس ينتفعون بها. والأخرى اجتماعية تنموية. ومن بين تلك الأوقاف الخيرية وقف المساجد ومرافقها ولوازمها، حيث اهتم المسلمون أولاً بوقف المساجد، فبادروا إلى عمارتها بكرم وسخاء، وأناروها بالقناديل والأضواء والشموع، وأمدوها بالمصاحف، وحفروا لها الآبار للوضوء والنظافة.
واهتم المسلمون بوقف المدارس على اختلاف مراحلها التعليمية؛ باعتبارها مصادر إشعاع لرقي الفكر والنهوض بالمعرفة الإنسانية، ووقفوا مع هذه المدارس أماكن لنوم الطلاب الغرباء، ومواضع للدراسة والمطالعة، وقاعات للبحث والكتابة، ومرافق صحية، وكان يقوم على هذه المدارس أساتذة عظماء وعلماء أجلاء، متفرغون للتعليم والمدارس، ينفق عليهم من مال الوقف؛ حرصاً على أوقاتهم من التشتت، وضماناً لاستمرار أدائهم رسالتهم في التعليم والإرشاد والتأليف والبحث. وهناك وقف المستشفيات ومستلزماتها، حيث اهتم المسلمون -أيضاً- بوقف المستشفيات، والإنفاق عليها وعلى المرضى والأطباء والموظفين، وتقديم الرعاية للجميع، من أجل النهوض بالمجتمع، وتنمية أفراده، وصيانة الصحة العامة. كما اهتم المسلمون -أيضاً- بوقف المكتبات العلمية والثقافية.
وأبدى المؤلف أسفه لتواضع إسهامات الوقف في إنجاز ما ترجوه الأمة من نهضة وتقدم وتنمية، على خلاف ما كان عليه في الماضي؛ حيث كان للوقف دور كبير في النهضة العلمية والفكرية والخدمات الصحية والمعيشية في عصور طويلة للأمة.
وشدد على حاجة الأمة الماسة لأن تقوم الأوقاف بدورها، وأن تسهم مساهمة فاعلة في التنمية وفق رؤية شرعية منطقية غير تقليدية، يمكن لها أن تمد عمليات الوقف بالمزيد من القوة والفاعلية، وأشار إلى أن جوانب التطوير والتجديد في العمليات الوقفية متنوعة ومتعددة، منها ما يرجع إلى الأموال الموقوفة، وما يمكن أن يندرج تحتها من مفردات تحتل أهمية كبيرة في واقعنا المعاصر، ومنها ما يرجع للصيغ الاستثمارية والتمويلية لعملية الوقف، ومنها ما يرجع إلى المؤسسات القائمة المشرفة على عمليات الوقف، سواء تمثلت في الجهات الواقفة أو تمثلت في الجهات المديرة المشرفة.
وأكد أن الوقف الإسلامي شامل لكل جوانب الخير، وأنه يمكن تقسيم نشاطاته إلى نشاطات استهلاكية، وهي ما ينفق في وجوه الخير، والمساجد والمعاهد الشرعية، وهذه تنفق عليها الأوقاف، ولا تعود بعائد مادي، كما هناك نشاطات إنتاجية: وهي ما رصده المحسنون ليتم استثماره بما يعود بالفائض المالي على الوقف؛ لينهض بالمشاريع المرتبطة به. مؤكداً أن هناك حاجة ملحة لإنشاء استثمارات حقيقية في الصناعة والزراعة.
توصيات قابلة للتنفيذ
وطرح الباحث ثقافة استراتيجية جديدة لتحويل الأوقاف إلى مؤسسات تنموية مانحة تخدم المتبرع بالوقف، والمستفيد منه، وليكون الوقف أكثر إنتاجا وفاعلية في المجتمع. وقدم مجموعة من الرؤى والتوصيات والاقتراحات حول الوقف، تصدرها اعتبار الوقف قطاعاً اقتصادياً ثالثاً موازياً للقطاعين العام والخاص، والاعتراف بالمشروعات الوقفية باعتبارها مرفقاً خدمياً، بكل ما يترتب على هذا الاعتراف من حماية الدولة لأعيان الأوقاف وأصولها، ومراقبة صرف غلالها، وطالب بأن يكون للإعلام أثر في تغيير ثقافة الناس تجاه الوقف.
وأوصت الدراسة بضرورة الاستفادة من التجارب الحديثة عند الأمم الأخرى في مجال استثمار الوقف وتنميته، وأن يكون لإدارات الأوقاف الحكومية والأهلية دور كبير ملموس على الأرض في توعية الواقفين أو المتبرعين بالوقف على الأمور المهمة التي يحتاجها أبناء المجتمع السعودي، وبيان الأولويات بينها.
وشدد الباحث على تفعيل التوصيات التي تخرج بها المؤتمرات، والندوات، والملتقيات، وإقرار رؤية شاملة تعتمد العلم في التشجيع على الوقف لأبواب البر والإحسان، وحماية أصول الأوقاف من العبث والتعدي والإهدار، واستثمارها لزيادة غلتها، ومضاعفة أعداد المستفيدين منها، وسرعة الفصل في النزاعات عليها، واقترح إنشاء شركات متخصصة في إدارة الأوقاف، كما أوصى الباحث باستقطاب أوقاف جديدة لما يجدّ من احتياجات المجتمعات العربية والإسلامية، والتعامل مع الأعيان الموقوفة على أساس من الخصوصية الشرعية التي لا تسمح بتملكها بالتقادم، وإدارة المشروعات الوقفية على أسس تجارية تنموية خيرية، وأهاب بهيئة الأوقاف أن تجمع الوثائق التي تمتلكها في مكان واحد؛ ليتسنى للباحثين الاطلاع عليها، كما أوصى بتحفيز الجامعات على أن تدرج في خططها الدراسية مفردات تعنى بالوقف، وتاريخه، ومفاهيمه، وأثره في تشييد الحضارة الإسلامية.