نحن اليوم في نهاية عصر، وبداية عصر آخر. ففي 24-7-1923م تم رسم صورة عصرنا الذي نعيشه، ويوشك على نهايته بعد ثلاث سنوات من الآن، كأننا أمام عصر جديد، كيف سيكون؟ وكيف سيتأسس؟ بسلام أم حرب؟
يشهد التاريخ أن المملكة المتحدة البريطانية كانت عام 1920م سيدة العالم كله، وإمبراطورية تمتد مساحة سلطتها على نحو 14 مليون ميل مربع على كرة الأرض حتى لُقبت بالإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، وبمعاونة حلفاء من أوروبا أسقطت الدولة العثمانية، ومزقتها، لكنها لم تدم بعد ذلك إلا عقدين ونيف حتى تقدمت الولايات المتحدة الأمريكية تزحزحها، وتحل مكانها سيدة للعالم حتى اليوم. وقبل أيام شرع مجلس النواب الأمريكي استراتيجية، في اعتقادي تنبئ بشكل ولون صورة المائة عام القادمة أو العصر الجديد. التشريع النيابي الأمريكي يتطلب دخول الولايات المتحدة الأمريكية في شرق البحر المتوسط لمناصرة الكيان الصهيوني واليونان وقبرص الجنوبية في مواجهة روسيا وتركيا الصديقين اللدودين لبعضهما. وخطورة الأمر في الصورة الجديدة أنها بصبغة «نكون أو لا نكون» لكلا الطرفين. تغذية أوروبا بالغاز الروسي الممتد عبر أوكرانيا وتركيا مزعج لأمريكا كونه يدعم الاقتصاد الروسي، ويؤثر على القرار الأوروبي. والمخزون الغازي في المتوسط حق متنازع عليه بين تركيا وكل من اليونان والكيان الصهيوني وقبرص، إن خلص لتركيا أضاف قوة للجانب التركي والروسي على أوروبا على حساب قيادة الولايات المتحدة وهيمنتها في أوروبا، كما أن ربط آسيا بأوروبا عبر شرق المتوسط من خلال تعاون إسرائيلي - يوناني بمنزلة حاجب يعزل تركيا، ويحصرها في حدود معاهدة لوزان 1923م، ويكون عوضًا عن الغاز الروسي، وطردًا لنفوذ محتمل لها في أوروبا.
اتفاقية تركيا مع ليبيا الأخيرة، ودخول روسيا في معمعة النزاع في ليبيا، كانا بمنزلة خطوة متقدمة، جاء التشريع الأمريكي الأخير ليلحق بها؛ الأمر الذي يوشك أن يبعد الولايات المتحدة عن شرق المتوسط، ويضعف نفوذها في أوروبا، وكأنما أوروبا ملكة جمال، يتنافس عليها عاشقان من الشرق، يسعيان لكسب ودها؛ ليبقى النسر الأمريكي خلف المحيط الأطلسي معزولاً عن وسط العالم، وهو باللغة السياسية دحر للنفوذ الأمريكي، وتقزيم لهيمنته وسيطرته. صحيح أن «الأنجلوساكسن» تجمع أوروبا بأمريكا كأمة واحدة، لكن تمزيق هذا الجمع بحكم القوة والمصالح أمر ممكن مثلما حدث في التاريخ باستمرار نتيجة صراع القوة والهيمنة، وهو ما لن تسمح به الولايات المتحدة الأمريكية، وتستعد له منذ الآن. وفي الوقت نفسه روسيا منافس شرس على قيادة العالم والهيمنة عليه، وربط المصالح مع أوروبا واحدة من أهم الوسائل للنيل من القوة الأمريكية بغية عزلها خلف المحيط الأطلسي. كما أن تركيا الناهضة بعد سبات، والمتأهبة للتخلص من تبعات اتفاقية لوزان المقيِّدة، راغبة أيضًا في العودة مجددًا كقوة مؤثرة بعد أن أوشك أن يكون إطلاق سراحها من حبس وقيود تلك الاتفاقية قاب قوسين أو أدنى.
العالم خلال السنوات الثلاث القادمة سيصبح أمام قضية شرق متوسط بدلاً من الشرق الأوسط، البؤرة ستكون بين شمال شرق البحر المتوسط وجنوبه، والشظايا لا شك ستبقى في الأطراف الشرقية والجنوبية للبحر الأبيض المتوسط. وقد نشهد تغير في التحالفات الدولية - على سبيل المثال - خروج تركيا من حلف الناتو، وانضمامها لروسيا في مواجهته لولا أن روسيا لا تقبل التحالفات الندية كطبيعة مستمرة منذ القدم، وكان أوضح ما يكون في عصر الاتحاد السوفييتي؛ فروسيا منذ العهد القيصري مرورًا بالاتحاد السوفييتي، وإلى روسيا الفدرالية اليوم، تستخدم مبدأ الهضم والبلع، ولا تجيد المضغ.. فبنظرها الحليف يجب أن ينطوي تمامًا في بطنها، وهي التي تفكر نيابة عنه، وتديره بإرادتها هي، كأنه قاصرٌ.. وهو ما لا يتوقع من تركيا أن تقبله بحكم طبيعتها الإمبراطورية التي امتدت أكثر من خمسة قرون، قهرت فيها روسيا وأوروبا على حد سواء.. لكن عودة إقحام تركيا في صراع عسكري، وهي لا تملك الندية الحقيقية، لا للقوة الأمريكية، ولا الأوروبية، ولا الروسية، قد يجعل البعض يرى أنها بمنزلة حبَّة القمح بين حجرَيْ الرحى.
التاريخ يتغيَّر فعلاً، وموازين القوة تتغير أيضًا؛ فنحن في بداية عصر جديد، تتشكل فيه مراكز قوى جديدة، وتتبدل مواقع قوى أخرى. هذا لن يتم دون حرب مثلما لم يتغير التاريخ عام 1923م دون حرب عالمية، رسمت وجه مائة سنة، توشك أن تلفظ أنفاسها لمائة عام جديد. وقد جرت العادة في «مائتنا» التي تلفظ أنفاسها الأخيرة أن يبقى الصراع بشكل غير مباشر، وبأدوات مغلوبة على أمرها، ولكن في وضعية إحلال عصر محل عصر، قد يحتم المواجهة المباشرة مثلما حدث في الحرب العالمية الأولى لقيام إمبراطورية بريطانيا، وكذلك الحرب العالمية الثانية لقيام إمبراطورية الولايات المتحدة الأمريكية. ومَنْ يدري؛ فقد تكون الصين هي القط الذي يخطف قطعة الجبن في خضم صراع الفئران.