رمضان جريدي العنزي
لمكة المكرمة والمدينة المنورة خصوصية شعائرية، وروحانية مميزة، دفعتني أسرتي قبل أيام معدودة لقصدهما، لهاتين المدينتين طعم خاص، وقدسية خاصة، ووقع في النفس والقلب والبدن، ونفحات مباركة، أربعة أيام قضيناها في هاتين المدينتين المكرمتين، شعرت بهما بما لا أشعر من قبل، فالخاطر متحفز، والقلب مستر، والروح ساكنة، مكانان طاهران تستنشق فيها عبير الإيمان، وتعيش فيهما أجواء الروحانية والخشوع، يرق فيهما القلب، ويفيض فيهما السلام والسكون والدعة، فيهما يقظة ذهنية كاملة واسترخاء، فيهما التأمل يكبر، والمخيلة تتسع، وفيهما صقيع المشاعر يذوب، والوجد يتحرر، والارتقاء يتمدد، الحشود فيهما كثيفة، وصدى التهليل والتحمد والتكبير والترتيل يأخذك نحو فضاءات بعيدة، والناس عالقون في رجاء الله، وأيديهم مرفوعة نحو بابه، شباب وكهول، فتيات وعجائز، أطفال صغار ورضع، مهاجرون إلى الله لا يعرفون في تلك اللحظات سوى الدعاء والتضرع، أينما استدرت بوجهي رأيت أيديهم مرفوعة، ودموعهم ذارفة، لا شيء يسمو بهم سوى دعاء الله، أتأمل وجوههم الكثيرة وأتفرس فيها، وأقاسمهم التضرع والرجاء، يموجون في بعضهم مثل موج في حالة جزر ومد لطيف، كلهم نفض النوم والوسن وتركوا الدنيا وجاؤوا إلى الله، أناخوا رحالهم يطلبون عونه وظله، باحثون عن عفو وتجاوز ومغفرة، وهم العارفون بأن كل ما في الدنيا نافد لا محالة وفانٍ، المال، والبنون، والأخ والخليل والصاحبة، وألفة البيت، وكل الذي بني، والأحلام المعروشة والأمنيات، والعمر يمر حتى يغدو مراً، النهار هناك في الديار المقدسة مبتسم، والليل وديع، والشمس ليست حارقة، والقمر لطيف، وصوت المؤذن يتردد صوته كهدية مفتوحة، ومنائر المسجد تناطح السماء على امتداد الفضاء، وماء زمزم لا يشبه أي ماء، والجنود من بعض القطاعات العسكرية والموظفون هناك متأهبون يمنحون الناس السلام والدعة، فيهم رقة، وفي أسلوبهم عذوبة، ينظمون الحشود، يدلون ويرشدون ويتعاهدون الناس بلطف، لا يتأففون ولا يتبرمون ولا يضيقون بالناس ذرعاً، لهم ابتسامات، وعيونهم فيها بريق، تنتابهم الوداعة، ويبعثرون أرواحهم خدمة للزوار والمعتمرين، سهلين إلى أبعد حدود السهولة، بسيطين ومتواضعين إلى أعمق مدى يصلون إلى العامة والبسطاء ومحدودي الثقافة، والحكومة أعزها الله ونصرها بذلت الغالي والنفيس بناء واستحداث وتخطيط وترتيب ونظافة وإرشاد وتثقيف، وساعات العمل هناك لا تتوقف، ملقاً لا تتوقف، من أجل خدمة الزوار والمعتمرين على أكمل وجه من غير تعب ولا مشقة ولا عناء، وكل عام هناك جديد، لقد صنعت حكومتنا الرشيدة أعزها الله في هاتين المدينتين المقدستين الدهشة كلها، حتى جعلتهما أيقونة للبهجة والمسرة والجمال، وأنتجت منهما رقماً بارعاً في عالم التحدي والثبات، ونقلتهما إلى مصاف التمدن والرقي والحداثة، وحولتهما إلى مدينتين مدهشتين أبداً كلوحتين مسترخيتين تفاجئان الأحداق، وتسعدان القلوب، إن الحديث عن الجهود الحكومية الجبارة في هاتين المدينتين المقدستين خدمة وإعماراً لا تستوعبها المقالات القصيرة، بل تحتاجان إلى إضاءات كبيرة، وتسليط الضوء المركز، لأن الواقع كبير، والإنجاز عظيم، وحيث تدير وجهك هناك وتتجه ترى العجب والتغير بين عام وعام، والزوار هناك بكل أطيافهم وتنوعاتهم وثقافاتهم ومشاربهم وأعمارهم وأعدادهم المهولة سعداء ومسرورين وتعلو محياهم علامات القبول والرضى، يعيشون الأمن والأمان والسلام، فلا ألم ولا خوف ولا قلق ولا جوع ولا عطش ولا خصام، فالعيون هناك ساهرة، والأيدي بانية، والعطاءات كبيرة، والمشاريع عملاقة، وحتى الأودية التي كانت من غير زرع، صار بها زرع وماء وخضرة، فلله الحمد والمنة أولاً وآخر، والشكر الجزيل لحكومتنا الرشيدة، التي أعطت من غير حد ولا عد ولا سقف ولا حساب، والتي لا تعرف لغة الكلام، بقدر ما تعرف لغة الفعل، ولغة العطاء، ولغة الأرقام، إن هذه المقالة الموجزة ليست مكرسة للحديث التفصيلي عن كامل الإنجازات الحكومية في هاتين المدينتين المقدستين، إنما هي محاولة لإعطاء لمحة سريعة عن أعمال جليلة قامت بها الحكومة وما زالت وستقوم بها، وأن سرد هذه الأعمال الكبيرة المتجددة والمتنوعة يحتاج ملفا ضخما يضم الباهر الناصع من العطاءات والأفعال والأعمال والمآثر التي لا تحصى، إننا اليوم في وقت طغى فيه الجحود والنكران على سائر الصفات، ولم يكتف الأنانيون أصحاب الابتغاءات المريضة في الاصطياد في المياه الفاسدة العكرة، رغم المنجز الكبير والشواهد والدلائل، إن قمم المجد والخلود لا يرتقي لها سوى أصحاب التحدي والثبات والهمم الجبارة، وأما الكهوف والسراديب الضيقة والدهاليز المعتمة فهي للذين لا هم لهم ولا مراد سوى الخيبة والجحود والنكران واللف والدوران في دوائر التشرد والضياع، كونهم يصطنعون الكذب، ويقولون الباطل، وينشرون الأراجيف، واجتراح الممارسات الممجوجة التي لا يرتضيهالمنصفون بحال من الأحوال، ويعيشون على التزوير والتضليل، إن ظلام الليل تمحوه أنوار الفجر، والكذب يبطله الصدق، والإشاعة تبطلها الحقيقة، واللغو يبطله الفعل البائن والمنجز الظاهر، والعاقبة للمتقين، والأفاكون لهم الخسران المبين.