عبدالعزيز السماري
نعيش في منطقة ملتهبة بالصراع الطائفي، الذي وصل إلى درجات غير مسبوقة من الكراهية والإقصاء؛ فكل طائفة تبحث عن السيطرة على الأرض، ثم تقصي أتباع الطوائف الأخرى، أو تجعل منهم أتباعًا لسيطرتهم. ولا يحتاج الأمر أمثلة؛ فالمنطقة تحترق بسبب السلوك الطائفي في السياسة..
الطائفة تتكون من جماعة، تقوم على تصورات خاصة بها للخالق وللكون والغيب، وتغذيها كراهية مقدسة للآخر، قد تصل إلى التصفية والتهجير. ولو رجعنا إلى التاريخ، وتأملنا من أين جاءت هذه الفكرة الإقصائية، لاتضحت الصورة الكبرى لما يحدث في منطقتنا.
بنو إسرائيل، أو القبيلة المقدسة، أول فكرة شرعت لنفسها الاستيلاء على أراضي الغير، وتصفية أو تهجير سكانها استجابة لمزاعم أن الإله شرع لهم السلوك العدواني لأنهم أفضل الخلق، وأن الأغيار (أي غير اليهود) ليس لهم حقوق؛ فهم مخلوقات بلا حقوق، وتجوز استباحة أوطانهم..
بدأت هذه الفكرة من أجل خدمة الجماعة أو القبيلة بأي ثمن؛ وذلك لضمان بقائها منفردة بتشريعات منفصلة عن المثل والقيم الإنسانية، لكن خطورتها كانت في تبني أفكارها من قِبل الجماعات الأخرى؛ لتصبح طريقة للحياة للجماعات أو الدول. فالفكرة اليهودية تقوم على أن تشرع للجماعة الخروج عن النص عند التعامل مع الآخرين.
تبنى المشهد العالمي خلال القرون الماضية هذه الفكرة، وبرر العقل الصهيوني ما حدث من قتل وتهجير للسكان الأصليين في أستراليا وأمريكا بذريعة الوعد الإلهي وأبناء الله؛ ولهذا السبب على وجه التحديد لا تزال المنظمات العالمية الحالية لا تقوم على أفكار إنسانية أخلاقية وشمولية؛ فهي تخفي بين جلابيبها تلك الأفكار التي قامت عليها أول جماعة مقدسة في التاريخ..
كان مصدر القوة في الثقافة العربية أنها لا يمكن أن تنحني أمام تلك الأفكار الخاصة للجماعة، لكنها منذ خروج ثورة الخميني تقسمت على مبدأ تقاليد القبيلة أو الجماعة المقدسة التي لها الحقوق دون غيرها. والتقسيم الجماعي المقدس وصل إلى مختلف الطوائف السُّنية والشيعية، كحزب الله والإخوان والحوثيين والقاعدة، وغيرهم.
عدوى الجماعة المقدسة انتقلت من العقل اليهودي المتطرف إلى عقول العرب والمسلمين، ثم تفرقوا إلى جماعات وقبائل، كل منهم يعتقد أنه الجماعة المختارة لحكم الأرض أو الوطن؛ فكان الصراع مريرًا بعد انتصار فكرة بني إسرائيل على مبادئ الأخلاق العامة التي لا تفرّق بين البشر على أسس عرقية أو دينية..
الإشكال الأكبر في هذه المسألة الشائكة كيف تُقنع أتباع هذه الطوائف بأنهم ضحايا للفكرة اليهودية في حكم وتشريعات القبيلة المقدسة، وأن الله - عز وجل - بريء من هذه الأساطير التي لا يمكن أن تكون مُنزَّلة من لدن حكيم خبير؟ وكيف تعود الفكرة الإنسانية في الثقافة العربية لتحكم الواقع، بدون حواجز طائفية تقوم على كراهية وإلغاء الآخر، مثلما هو الحال في القبيلة اليهودية؟..