د. خيرية السقاف
ما من مؤمن إلا يؤمن بأن الأرزاق من عند الله تعالى, هو وحده مَن يعطيها, وهو وحده من يقدرها, وينوِّعها. وقد ورد في الكتاب الكريم {وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} (22 سورة الذاريات), كما قنَّـن {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ} (38 سورة النور), {فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (72 سورة المؤمنون)..
وأرزاق الله تختلف, أما ما كان منها مالاً سائلاً في يد المرء يجريه كيف يشاء فإن الله تعالى أيضًا وجهه لحسن التصرف فيه فقال: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} (67 سورة الفرقان), حتى الفقير وجَّهه بأن قال له: {وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ}(236 سورة البقرة)؛ إذ خير الأمور الوسط «لا إفراط ولا تفريط»؛ إذ ينبغي للمرء أن يعي التوجيه الإلهي: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا} (29 سورة الإسراء)..
فالله تعالى لم يدع شيئًا من أمور التوجيه, وتربية السلوك, والتدريب على القناعة, بتعليم المرء كيفية التعامل مع منافعه بما سخره له من الرزق، إلا وأوردها في الكتاب, وأتمها، وفصلها في السنة النبوية عن الرسول البشير - عليه الصلاة والسلام - المعلم القدوة..
وإن هناك مَن أغدق على نفسه إسرافًا, وهناك من ضيَّق على نفسه حرصًا, وهناك من كان بين ذلك اعتدالاً..
هؤلاء المسرفون كثيرًا ما يقعون في ضائقة فيرمون اللوم على غيرهم, وأولئك الحريصون سيذهبون ولم يحدِّثوا بنِعَم الله عليهم؛ ليرث ما حفظوه من بعدهم مَن يغل يده, أو مَن يبسطها.. وهكذا الأيام دُول..
المؤمن قنوع بما يُرزق, يؤثر على نفسه ولو كانت له حاجة, وهو يدرك أن الأرزاق بيد الله, وأن عليه أن يكد ويسعى, فإذا سعى ونال فعليه الاعتدال في الصرف حسب الحاجة, ومواجهة طوارئ المواقف..
فإن أصابه فقر, أو دعاه مرض, أو أعجزته نازلة بقضاء الله فيه، ولا يملك لها حيلة, فليواجهها بالصبر والحكمة, فإن عجز فإن هناك جابري العثرات, بزكاتهم, أو تبرعاتهم, أو عونهم باختلاف نوع الحاجة إليهم.. وهذا ما يدعو إليه الخُلق, والدين, والأخوّة. هؤلاء ينبغي أن تحدد وجهتهم كالذي سيأتي من مقترح؛ لأن الذي عليه أكثر الناس الآن هو أنهم قد اتخذوا من منصات التواصل نوافذ عرض, وقنوات صوت, ووسائل كشفٍ, يرمون بظروفهم على سواهم, مع أن أحدًا غير مسؤول عن سلوكهم في التعامل مع ما قدر الله لهم من أرزاق, تحديدًا بوجود أنظمة تقنن لكل وظيفة دخلها..
كذلك ليس بيد أحد قضاء الله فيهم.. إلا هو تعالى لعلهم أن يصبروا, أو يرجعوا إليه.
هؤلاء لا أجد ما يبرر سلوكهم الاستجدائي العلني هذا, وإن كانوا في مأزق, مهما ضاق عنقه, أو اتسع..
نعم, هناك عثرات يحتاج فيها المرء إلى أن تُجبر, ونوازل من اللائق أن تُرفع عنه همومها بين إخوة متكاتفين, ولكن ليس بالتشهير، وإنما بالتكافل المنظَّم, والتعاون الأريحي, ولهما طرقهما, ووسائلهما, ومراجعهما التي لا تصعب, ولا تخفى على مجتمع مؤمن, خيِّر, معطاء..
ولعل هنا ما أضيف إليه من هذه الوسائل باقتراح:
أولاً: أن تتولى كل مؤسسة عمل إنشاء جمعية لموظفيها، تودع فيها من زكاتهم, أو تبرعاتهم وفق قدراتهم، لمواجهة طوارئ حاجة بعضهم..
ثانيًا: أن تتولى - كما سبق أن كتبتُ - مراكز الأحياء إنشاء صناديق لأغراض مثل هذه، يلجأ إليها سكانها، تقال عنها عثراتهم.
ثالثًا: أن يعاد النظر في أمر «إيقاف الخدمات»؛ فهذا القرار يعطِّل قدرة الموقوف عن معالجة وضعه بشل قدرته عن السعي لقضاء دَيْنه, وكثير يصعب عليه أن يتعرض للسجن إلى أن يجد من يسدد عنه.
رابعًا: يمكن أن تتولى كل هذا إمارات المدن بوضع دائرة خاصة بشؤون ديون الأفراد, وأمراضهم, وعجزهم عن نوازل تلمُّ بهم، ولا يحتملها دخلهم المادي.
خامسًا: أن تنشئ وزارة الصحة في كل مدينة أو ضاحية جسرًا مجانيًّا بين كبريات المصحات المختصة للحالات المرضية التي يعجز فيها المضطر عن مواجهة غلاء التطبب في المصحات الأهلية, أو الحكومية الكبرى, أو حيث تستدعي حالاتهم وتقصر قدراتهم المادية. لعلنا أن نوقف نزيف الاستجداء, والحاجة, ونقيل العثرات بنُبل.