د.محمد بن عبدالرحمن البشر
معظمنا يعلم أن المسلمين الذين بقوا بعد سقوط غرناطة أصبحوا مدجنين، ومن ثم أُجبروا على التنصر؛ فأصبحوا مورسكيين. وقد عانى هؤلاء المورسكيون صنوف القهر، والظلم، والاستبداد، والتعذيب، والتنكيل، وكانت محاكم التفتيش الذراع القاسية للتنكيل بمن يعارض الكاثوليكية في ذلك الوقت، سواء كانوا مسلمين أو نصارى بروتستانت، أو علماء نصارى كاثوليك، أو مسلمين، أو مورسكيين. ففي عام 1580م اعترف طبيب مورسكي تحت التعذيب بأنه يستشير شيطانًا، وبأنه استشار الشيطان حول طرق علاج الأمراض، وخصائص الأعشاب والبول. ولم يكن اعترافه إلا إجبارًا للخلاص من ألم التعذيب المستمر الذي لا ينتهي؛ لهذا كان اعترافه للخلاص مما يعاني، مع علمه المسبق أن مصيره القتل، سواء اعترف أو لم يعترف. وهذا يذكِّرني ببيت شعر للمتنبي:
كفى بك داءً أن ترى الموتَ شافيًا
وحَسْب المنايا أن يكُنَّ أمانيا
وكانت بعض الأفكار تعشعش في أذهان بعض الساسة ورجال الدين في ذلك الوقت حول معظم الشعوب. فمثلا هناك رجل دين يقال له السيد/ سبولوبيدا، ذكر أن «الشعوب الأمريكية الأصلية، أي الهنود الحمر، همجٌ متوحشون؛ لهذا كان من واجبنا الديني أن نغزوهم ونمدنهم، وفقًا (للقانون الطبيعي)». والحقيقة إني لا أعلم أي قانون طبيعي يقصده، وكان الأولى مساعدتهم في التمدن، دون القتل والإجبار، وإنما بنشر العلم والمحبة والسلام. ومثل السيد/ سبولوبيدا كانت نظرة السيد/ أمثار كارونا للمورسكيين؛ إذ يذكر أنهم ثعالب مفترسة، وثعابين وعقارب وضفادع وعناكب وسحالي سامة، مرض الكثير، ومات البعض منها، كما أنهم قطّاع طرق شرسون، وطيور جارحة، تعيش على نشر الموت، وهم ذئاب بين الخراف، وذكور النحل العاطلة في الخلية، وغربان بين الحمام، وكلاب في الكنيسة، وعرق معين بين الإسرائيليين.
لم أورد ما ذكر هذا العرق المعين الذي - مع كل أسف - قد ذكره هذا المتطرف في أفكاره، لكنه وغيره ممن سلف، أو جاء فيما بعد، طردوا الإسرائيليين الأبرياء وقتلوهم، وأبادوهم، وظلموهم، والآن يمتدحهم، ويصف المورسكيين بأنهم يشبهون عرق معين بين الإسرائيليين النبلاء؛ فلا أعلم سببًا لهذا التناقض.
غير أن التعصب الأعمى، والتطرف في الأفكار، يعميان الأبصار. ومن الغريب أن بعض المتطرفين يلومون المورسكيين بأنهم «أكثر جدية في العمل، وأقل صرفًا للمال؛ لهذا فهم بخلاء، ليس لهم همٌّ إلا جمع المال، كما أن بعضهم يعملون ساعات أطول».. ووصفوهم بأنهم إسفنجة، تمتص كل ثروة إسبانيا. وقد أُطلق هذا الوصف على اليهود قبل طردهم. والحقيقة إن ذلك كله لم يكن إلا بحثًا عن مبرر لما عاناه عهد الملك فيليب الثاني في نهاية زمانه. وقد اقترح بعضهم منع المورسكيين من دراسة العلوم الشريفة، مثل الطب، وحشدوا مبررات زائفة لتبرير ذلك، منها قولهم إن هناك طبيبًا في مدريد، أسموه المنتقم، وقالوا زيفًا إنه قتل ثلاثة آلاف نصراني باستخدام مرهم مسموم. وهذا أمر لا يُعقل؛ فمن البديهي أن يتم اكتشافه ويُفضح أمره منذ الوهلة الأولى التي يموت فيها مريض بهذا السم، ولاسيما أن التقنية في ذلك الوقت لا تساعد على استخدام أدوات ومراهم يمتد تأثيرها لفترة طويلة، لو استخدم مرهمًا مسمومًا لمات المريض من ساعته، لكن نشر مثل هذه الافتراءات تؤلب العامة الذين يصدقون دون أن يعوا، ولاسيما إذا كان الأمر متعلقًا بالنَّيل من الدين أو المذهب.
حقيقة الأمر أن التطرف الديني والفكري ظاهرة، وُجدت عبر التاريخ. وزماننا هذا لا يختلف عن سابقه إلا أنه يظهر في فترات ويشتد ضرره، وفي فترات يقل شرره، طبقًا لظروف مختلفة. ليس له مكان معين، ولا معتقد. والإنسان هو الذي يصنعه، ويشعله أو يطفئه طبقًا لمصالح فئة قليلة، تستغل عددًا كبيرًا من الجهلة والرعاع الذين تقودهم العاطفة دون تفكير، كما هو حاصل في زماننا هذا مع داعش والقاعدة وأمثالهم من أتباع كثيرين من الملل والنحل.
ندعو الله سبحانه وتعالى أن يديم علينا الأمن والأمان، ويكفينا شر الأشرار في الداخل والخارج، ويحفظ بلاد العالم أجمع من أصحاب التطرف والضلال.