د. محمد بن يحيى الفال
حلت بنود الاتهام في مجلس الشيوخ بعد تلكؤ في إرسالها من قبل رئيسة مجلس النواب الأمريكي نانسي بيلوسي استمر لبعض الوقت، لم يجد له المراقبون تفسيراً منطقياً سوى رغبة النواب الديمقراطيين في كسب المزيد من الوقت للتحضير لمرافعاتهم لعزل الرئيس أمام مجلس الشيوخ الذي يُسيطر عليه الجمهوريون بـ 53 صوتاً مقابل 47 للديمقراطيين.
بنود الاتهام التي أحيلت إلى مجلس الشيوخ والمكون من مائة سيناتور -بواقع اثنين عن كل ولاية من الولايات الأمريكية الخمسين بغض النظر عن حجمها- لعزل الرئيس الخامس والأربعين للولايات المتحدة الأمريكية دونالد جون ترامب مكونة من بندين هما: استغلال الرئيس لسلطته للحصول على مكاسب شخصية لحملة إعادة انتخابه في انتخابات الرئاسة 2020 والتي لم يتبقَ على إجرائها سوى عشرة أشهر، وتحديداً ستُجرى في يوم الثلاثاء الموافق للثالث من شهر نوفمبر 2020. كسب الوقت وبأقصى ما أمكن هو العامل المحوري الذي بنى عليه الديمقراطيون استراتيجية قضيتهم الهادفة لعزل الرئيس من منصبه أو على أقل تقدير التشويش عليه وعلى فرص إعادة انتخابه بتشويه صورته أمام الرأي العام الأمريكي، مع حقيقة أن الأغلبية في مجلس الشيوخ هم الجمهوريون من حزب الرئيس الذين سيعملون بمثابة هيئة المحُلفين المُوكل بها إصدار الحكم بقبول أو رفض بنود الاتهام التي حلت في مجلسهم، بعد انتظار مُرسلة من رئيسة مجلس النواب والذي عمل كهيئة ادعاء منوط بها تقديم لائحة الاتهام ضد الرئيس.
استراتيجية الديمقراطيين في كسب الوقت في قضيتهم لعزل الرئيس ترامب نراها واضحة جلية في محورين يتقاطعان مع بعضيهما وهما وفيما يخص المحور الأول فعدم الرفع للقضاء للحصول على حكم يلزم المسئولين التسعة العاملين في الإدارة الأمريكية، وعلى رأسهم ميك ميلفوني رئيس موظفي البيت الأبيض بالإنابة ومساعدة روبرت بلير للمثول أمام الكونجرس للإدلاء بشهاداتهم بعد رفضهم لذلك بتوجيه من الإدارة الأمريكية، وذلك فيما يخص القضية الأساسية المرتبطة بعزل الرئيس، وهي طلبه من الرئيس الأوكراني إجراء تحقيق في مزاعم فساد مع هنتر بايدن ابن جو بايدن نائب الرئيس الأمريكي باراك أوباما والذي رشح نفسه لخوض انتخابات الرئاسة الأمريكية المقبلة وكأحد أهم مرشحي الحزب الذي سيتضح اسم مرشحه للانتخابات الرئاسية المقبلة في مؤتمر الحزب العام في الصيف المقبل، وتحديداً بين الثالث عشر والسادس عشر من شهر يوليو 2020 في مدينة ميلواكي بولاية ويسكنسن.
المحور الآخر المتقاطع مع المحور الأول هو قرب موعد الانتخابات الرئاسية 2020 والذي جعل الديمقراطيين في عجلة من أمرهم في مقاضاة الرئيس دون استكمال كافة الأدلة الضرورية لجعل قضيتهم المرفوعة لعزل الرئيس لمجلس النواب مكتملة وجاهزة لعرضها أمام ممثلي ولايات الأمة الأمريكية المائة أعضاء مجلس الشيوخ.
استراتيجية كسب الوقت التي هي محور خطة الديمقراطيين في قضيتهم لعزل الرئيس من منصبه هي وللمفارقة نفس الاستراتيجية التي عمل بها فريق الدفاع عن الرئيس والتي بدأت برفض تقديم أي وثائق أو مثول شهود أمام الكونجرس في قضية عزل الرئيس، ومحورها ضغط الرئيس ترامب على الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلنسكي للتحقيق مع ابن بايدن لتشويه صورة أبيه كمرشح محتمل للحزب الديمقراطي لانتخابات 2020 الرئاسية، وشرط تقديم المساعدات العسكرية الأمريكية لأوكرانيا وزيارة رئيسها للبيت الأبيض في قيام الأخير بتحقيق علني هدفه توريط ابن بادين في قضايا فساد مع شركة الغاز الأوكرانية التي يحتل مقعدا في مجلس إدارتها براتب شهري يبلغ 50 ألف دولار.
عملياً نرى تطبيق استراتيجية كسب الوقت التي يتبعها الحزب الجمهوري وفريق الدفاع عن الرئيس ماثلة أمامنا، وذلك من خلال مداولات مجلس الشيوخ لآليات سير محاكمة الرئيس حيث أسقط الجمهوريون ثلاث محاولات من قبل الديمقراطيين للحصول على وثائق حكومية واستدعاء للشهود الذين رفضوا المثول أمام مجلس النواب.
خلال دفوعات الديمقراطيين أمام مجلس الشيوخ يعتقد الكثير من المراقبين الأمريكيين أنهم أجادوا في شرح الأسباب من وراء بنود الاتهام لعزل الرئيس، وأشادوا كثيراً بالعرض الذي قدمه آدم شيف رئيس لجنة الاستخبارات بمجلس النواب ورئيس هيئة عرض بنود العزل الديمقراطية لمجلس الشيوخ الأمريكي والذي ربط بين بنود الاتهام الموجهة ضد الرئيس وبين أهمية التصويت لصالحها بكون ليس فقط أمن أمريكا على المحك من خلال تدخل الروس في انتخابات الرئاسة الأمريكية لعام 2016 والتي أكدها تقرير المحقق الخاص مولر، بل أيضاً أمن حلفاء أمريكا الأوربيين وأمن الجنود والقواعد الأمريكية في أوربا، وفوق هذا وذاك القيم الأمريكية التي تجد قبولاً في كافة أنحاء المعمورة والتي سوف تكون على المحك هي الأخرى في حالة تبرئة الرئيس من التهم المنسوبة إليه.
دفوعات الجمهوريين من المتوقع وكما صرح عدد من فريق الدفاع عن الرئيس لوسائل الإعلام الأمريكية سوف تصب في التشكيك ببنود الاتهام وبشرعيتها وبأنها مُسيِّسة ولا هدف منها سوى تشويه سمعة الرئيس مع قرب موعد حلول الانتخابات الرئاسية، وهو الأمر الذي سعى إليه الديمقراطيون من الوهلة الأولى لفوز الرئيس دونالد ترامب بانتخابات الرئاسة الأمريكية السابقة في عام 2016.
السؤال الكبير الذي يطرح نفسه ومع هذا الاختلاف الكبير بين الديمقراطيين والجمهوريين الحزبين الرئيسين في الحياة السياسية الأمريكية عندما يتعلق الأمر بعزل الرئيس، هل من الممكن حقاً تطبيق محاكمة عادلة لأي رئيس أمريكي من خلال نظام سياسي يُسيطر عليه حزبين «»Bipartisan!؟، الشواهد السابقة ومع قلّتها (ثلاث حالات) تؤكد استحالة ذلك، وذلك بأن الآباء المؤسسين للجمهورية الأمريكية وكاتبي دستورها تركوا تحديد ماهية الجرائم والجنح الكبرى «High crime and misdemeanor»، للزمان الذي تُحدث فيه والذي أضحي في مقدرة المحاميين في وقتنا الحاضر قوة ومقدرة خارقة في التحكم فيه بتفسيره فيما يصب في مصلحة موكلهم. الأمر الذي سينتج عنه لا محالة صراع داخل ضمير كل سيناتور سوف يصوت لاحقاً مع تبرئة أو إدانة الرئيس، ومع قول ذلك فإن الولاء للحزب سواء من قبل أعضاء مجلس الشيوخ الديمقراطيين أو الجمهوريين سيكون هو الفيصل في حسم الأمر.
هناك سؤال يطرح نفسه من خلال الاستماع لمداولات الديمقراطيين وسوف يكون كذلك من قبل الجمهوريين وفريق دفاعهم وهو بأن هناك خلافاً واضحاً بينهما في مدى دستورية بنود عزل الرئيس، وهو الأمر الذي كان بإمكان المحكمة العليا أن تبدي رأيها فيه لولا أن الدستور لم يفوض لها هذه الخاصية ولأمر في غاية الأهمية كدستورية بنود عزل الرئيس، ولعل الجدل الحالي في أمريكا لعزل الرئيس سوف يُعيد الحديث من قبل المجتمع المدني الأمريكي عن أهمية إيجاد صيغة تُمكِّن أعلى سلطة قضائية في الولايات المتحدة من لعب دور في مدى دستورية بنود العزل لأي رئيس أمريكي في المستقبل.
قطعاً سينجو الرئيس الأمريكي من الإدانة في مجلس الشيوخ الذي يسيطر عليه الجمهوريون ما لم تحدث معجزة، ومع تبرئته في مجلس الشيوخ فسوف تبقى قضيتان تلاحق الرئيس، القضية الأولي آنية تخص صورة الرئيس أمام الرأي العام الأمريكي، فهو أضر بنفسه قبل أن يضر به خصومه الديمقراطيون، حيث دعا وعلناً في عدة مناسبات لتدخل أجنبي في شئون بلاده، ومثال ذلك دعوته لروسيا خلال انتخابات 2106 الرئاسية بأن تتدخل للكشف عن مراسلات منافسته الديمقراطية هيلاري كلينتون، وبأنها استعملت بريدها الشخصي في شئون الدولة الرسمية حينما كانت وزيرة للخارجية الأمريكية، تهديده للسفيرة الأمريكية في أوكرانيا ماري يوفانوفيتش خلال محادثة تليفونية له مع الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلنسكي وقوله إن شيئاً ما سوف يحدث لها مما أخافها بعد اطلاعها على فحوى المكالمة وذلك حسب إفادتها الشخصية أمام مجلس النواب، طلبه من الصين علناً التحقيق مع أسرتي بادين وكلينتون في قضايا فساد مزعومة. القضية الأخرى التي ما زالت تلاحق الرئيس ترامب تتعلق بنشر إقراراته الضريبية والتي سوف تبُث المحكمة العليا بدستوريتها في موعد أقصاه 30 يونيو المقبل، بعد أن قبلت طعن الرئيس ترامب في وقف تنفيذ عدة أحكام صدرت من محكمة في نيويورك تجبره على نشر إقراراته الضريبية، وعلى كل حال فالرئيس يتطلع إلى إعادة ترشيحه لفترة ثانية في مؤتمر الحزب الجمهوري في الفترة الواقعة بين 24 و27 من أغسطس في مدينة شارلوت بولاية كارولاينا الشمالية، حينها سوف يتنفس الرئيس الصعداء في خطوة غاية في الأهمية نحو الثالث من شهر نوفمبر 2020، موعد عقد الانتخابات الرئاسية الأمريكية والتي ستكون قطعاً مختلفة في كل تفاصيلها عن أي انتخابات رئاسية أمريكية سابقة.