د. محمد بن إبراهيم الملحم
أختم هنا سلسلة مقالاتي لنتائج الدراسة البحثية المصاحبة لاختبار بيزا الدولي وهي من أفضل وأصدق المؤشرات المتوافرة لدينا اليوم لتشخيص الواقع التعليمي، فهي من جهة خارجية ولن تجامل أحدًا هنا، وهي هادفة للتنمية وليست من فئة الدراسات الأكاديمية للترقية العلمية أو الحصول على شهادة كما هو حال أغلب وربما كل الدراسات لدينا، وأخيرًا هي صادرة عن مؤسسة دولية وضعت لخدمة الحكومات وتقديم الاستشارة لها فيما يخص شؤون التنمية والتقدم الاقتصادي OECD ولذلك يعد الوقوف عندها مليًا جدير بالاهتمام وله دلالته المهمة في هذه المرحلة التي ينظر فيها للتعليم كأداة مهمة من أدوات التنمية الاقتصادية وتحقيق رؤية المملكة الطموحة.
ألخص هنا أهم النتائج وأولها تأثير التنمر على تعلم الطلاب حيث يتعرض له أكثر من نصف طلابنا (54 في المائة) عاكسًا جوًا غير صحي نفسيًا، كما أن المعلم ينتظر فترة طويلة حتى يهدأ الطلاب ويطلب منهم الدخول للفصول بين الحصص وهذا كله يعكس خطورة التربية السلبية وضرورة استعادة هيبة المدرسة ومحو الأمية التربوية في البيوت التي هي أحد أسباب هذا السلوك.. ثم وضحت كيف أن البنات تفوقن على الأولاد في كل المواد بينما جرت العادة (من المشاهدة وبحسب الأدبيات العلمية) أن يتفوقن في القراءة فقط، وهو مؤشر على تفوق تدريس معلمات الرياضيات والعلوم على تدريس المعلمين وكذلك تفوق إدارة مدارس البنات الثانوية على إدارة مدارس الأولاد، وتساءلت هنا عن الجدوى التعليمية للدمج بين تعليمي البنين والبنات؟ ولماذا تستمر الفروق في الأداء والممارسات بين الفريقين حتى متى لا نستثمر «تعليميًا» في هذا الدمج؟ كما طالبت بدراسة بحثية تكشف الفروق بين مدارس الجنسين تدريسًا وإدارة انطلاقًا من نتائج دراسة بيزا.. وفيما يخص المعلم أيضًا فإن التطوير المهني للمعلمين جيد فالدراسة كشفت أن 86 في المائة حصلوا عليه، وهو جيد «كميًا» ولكنه ضعيف «نوعيًا» بدلالة: ضعف مخرجات العملية التدريسية! وهو ما يدعو لضرورة تقييم التدريب وقياس الأثر للدورات التدريبية وحسن انتقاء المدربين وحبك الحقائب التدريبية.
كما تقول الدراسة إن أغلبية المعلمين أصغر سنًا من أقرانهم في بقية الدول، ونسبة الذين أكبر من 50 سنة هي 5 في المائة فقط مقابل 30 في المائة في الدول المتقدمة تعليميًا، أي أن بيئة العمل التعليمي لدينا طاردة للمعلمين ذوي الحكمة وخبرة الحياة بينما هو عامل القوة لدى مجتمعات التعليم الأخرى، وهذا يدعو المؤسسة التعليمية إلى مراقبة سلوكها في التغير المستمر للأنظمة والتعليمات والتباين الشديد بين الممارسات والتغييرات المتلاحقة للقيادات سواء لمديري المدارس والمشرفين ورؤساء الأقسام أو حتى للمستويات الأعلى مما يهدد استقرار المعلم وراحته النفسية، أما أعمار مديري المدارس فنحن آخر دولة في سلم الأعمار المرتب تنازليًا (أي الأصغر سنًا) ونسبة المديرين الذين أعمارهم 60 سنة فأكثر هي صفر في المائة، مما يعني أيضًا أن الخبرة التعليمية والرؤية التربوية الحكيمة مفقودة في المدارس السعودية، وينبغي للوزارة أن تعد خطة لإكساب قادة المدارس الشباب «حكمة» العمل والقيادة وفهم الدور التربوي للمدرسة وعملية التدريس.
أما في المجال السوسيوتعليمي فإن المستوى الاجتماعي أو الاقتصادي الجيد للأسرة كان له تأثيره في ارتفاع تحصيل أو تفوق الطلاب، وهو ما يعني عدم العدالة والتكافؤ بين طلاب ومدارس الفئتين، ووجد أن المدارس في المناطق - القرى الأقل في الظروف الاجتماعية الاقتصادية (والتي يدرس فيها نصف طلاب المملكة تقريبًا) تعاني من نقص المعلمين كظاهرة مستمرة تتسبب في نقص أداء الطلاب، وهذا يدعو إلى التساؤل عن خطط التغلب على هذه المشكلات المزمنة وضرورة معاملة مدارس هذه الجهات بأجندة تعليم خاصة وجعلها أولوية في أجندتها التطويرية لرؤية 2030، وحيث إن المقيمين يمثلون 12 في المائة من السكان فكان مهمًا النظر إلى نتيجة مقياس أداء الطلاب المقيمين والطلاب المواطنين حيث لوحظ تفوق المقيمين على المواطنين بفارق كبير وهو يدعو للدراسة أيضًا.
وضحت النتائج أن مشاركة الوالدين بحضوهم للمدرسة بناء على طلب أحد المعلمين أو الإدارة لمناقشة مستوى الطالب العلمي مؤثرة في تقدم الطالب، لكن نسبته منخفضة جدًا بالسعودية، الأمر الذي يدعو إلى تكثيف البرامج التوعوية وكذلك «التأكد» أن المدرسة تدعو أولياء الأمور فعلاً للحضور والمناقشة.
وأخيرًا الدراسة كشفت أن المعلم السعودي يهتم بالتعلم ويبذل جهده لمساعدة الطالب! ولكن النتائج المتراجعة تقول لنا إن بضاعة المعلم (مع اجتهاده ونشاطه) ضعيفة مهلهلة سواء علميًا أو تربويًا في طريقة التقديم ما يجعل فائدة الطالب دائمًا محدودة مهما بذل المعلم من نشاط إضافي. الأمر الذي يوجب تدخل المؤسسة التعليمية في رفع مستويات معلميها العلمية وثقافتهم التربوية والتأكَّد من جودة ممارساتهم التدريسية لكي يكون استثمارها الذي تضعه في هؤلاء المعلمين منتجًا ومحققًا لأهدافها...
أخيرًا هناك من ظل يسألني فيما كتبت من مقالات: أين الطريق؟ وأقول لهم: هذا هو، أخرجته من رحم دراسة دولية ولكنه جنين يحتاج من يتبناه ليرعاه... فيصبح السؤال: أين من يرعاه؟