د. خيرية السقاف
محبة المدن تؤسس عن الرضا بما فيها، والاستشراف لما سيكون فيها..
بالطوبة تقف جوار طوبة، أو تعلو عنها في أبنيتها، ومرافقها..
بمساحاتها حين تخضر، وبمساكنها حين تنظم..
بإمكاناتها حين تستجيب لمنافع المحبين لها؛ بوسائل راحتهم، وإمدادات طموحهم..
بالمأوى الدافئ الكافي، وبالمشفى المشرع الوافي، بالناقل السريع المريح الزهيد النظيف..
بالجار الأليف المؤْثِر، وبالزميل المشارك المساند..
بالمدرسة محضنًا آخر، وبالمكتبة رافدًا إضافيًّا..
بالأمن لا تغفل عينه، وبالمعلِّم لا يبخل نفسه، وبالبائع لا يغش، وبالمتجر لا يغلق عن الوفاء بحاجاته..
بالطريق الممهد، والجادة المتسعة، والقانون العادل، والهواء النظيف، والماء النقي..
تؤسس المدن حين الأفراد يحملون عبء كل ذلك، كل منهم في دوره، وجزيئة اختصاصه..
فالمدن أمكنة واسعة عن البيت الصغير فيها، عن ركن في دائرة عمل ضمن لحمتها، عن منعطف فرعي في شرايينها، وأوردتها، وعروقها..
المدن تؤسس محبتها حين تصبح للمرء خفقه الذي ينبض مع أية حركة مشي، أو هيئة جلوس، أو حالة تفاعل، بل حتى استرخاء نوم، أو استراحة فكر، أو ركض واجب..
لذا تنزل المدن في قلوب محبيها حين هي صناعتهم، وعملهم، وجهدهم، وفكرهم، ووفائهم، عطاء، وأثرة، وإحساسًا، ونبلاً..
فللمدن أخلاق هي أخلاق أهلها، ولها جمالها من جمال طباعهم..
وإلا فهي جزء فوق الأرض بخصائص تكوينها..
جهة في كوكب الأرض، لا ينطق فيها سوى فطرتها..
فالمدن حين تحيا فبأهلها، وحين تموت فبهم؛ فهم الذين يضفون على مساحتها، وحدودها صفاتها، وأثرها..
لأنهم الذين يمدون فيها دماءها، يطلقون صوتها، وينشرون شذاها..
هم من يجعلونها نجمة تشع في جهة من الأرض، أو يخمدون جذوة الحياة فيها..
فإما أن تُحبُّ فيقبل الناس إليها، ويطمئن إليها ساكنها، أو ينفروا عنها، ويضيق بها ساكنوها..
فمحبة المدن تؤسس، ولكن مَن الذي يفعل لتكون حبة القلب في صدور ساكنيها، ومريديها غير إنسانها؟!