د. محمد بن إبراهيم الملحم
لا أدري لماذا وضعت هذا العنوان لمقالتي ولكن ربما تعذروني بل قد يعجبكم إذا وصلتم إلى نهايته..
هناك معلمون في مدارسنا يحملون بين أضلعهم قلوبًا مشفقة تفيض رحمة وحنانًا..
وحديثي هنا مناسبته قصة الصورة التي وضعتها لكم مع هذه المقالة وهي صورة لتحفة خزفية ملونة ومزينة بإكسسوارات نسائية تقليدية لطيفة تنتمي إلى نفس فترة استخدام الجرة الخزفية في مجتمعنا، حيث كنت في زيارة لمنزل زميلي العزيز بالدمام الأستاذ ابراهيم الحامد مشرف التربية الخاصة، ودار حديث تربوي بيننا حكى فيه قصة طالب يتيم في إحدى المدارس كان قد أحضر لمعلم التربية الفنية جرة ماء فخارية من تلك التي تصنع بالأحساء وتسمى «المصخنة» وربما أصلها الفصيح «المسخنة» مع أنها تبرد الماء في الواقع! وقبل أن يسلمها للمعلم وقعت من يده فانكسرت، فعرضها على المعلم مكسرة في كيس جمعها فيه، وقد ترقرقت الدموع في عيني ذلك الطالب اليتيم وتأثر لما حدث أيما تأثر، وهنا بادر المعلم وقال له لا عليك احتفظ بها وهاتها لغرفة التربية الفنية غدا، ثم أرشده خلال الأيام التي تلت إلى كيفية تحويلها إلى قطعة فنية جميلة ونجح الطالب لتصبح هي التي ترونها في هذه الصورة، ثم قام المعلم بتدشينها أمام الطلاب وصفق الجميع لزميلهم اليتيم وتحول حزنه إلى فرح وإنجاز حقيقي.
المعلم ينقل المعارف والمهارات للطلاب أو يساعدهم على اكتسابها ولكنه قبل ذلك ملهم وأب وموجه فهو يلهم الطلاب نحو موضوع مادته ليحبوها ويفهموا دورها في حياتهم ويقدروا قيمتها ويثمنوا أيضًا سبب استغراقهم الوقت الطويل في دراستها واستيعاب ما تتضمنه من مهارات ومعارف وأسس وطرق, كما أنه يلهمهم نحو فهم ذواتهم وتقدير قيمة ما يملكونه من الإمكانات وتفعيل هذه القيمة في واقع حياتهم سواء حياتهم المدرسية أثناء مسيرتهم مع معلمهم أو لاحقًا عندما يدخلون معترك الحياة الحقيقي، وهو ملهم أيضًا نحو قيم المجتمع حولهم فهو قدوتهم في العطاء والصدق والتعاون والاحترام والبذل والتعلم والثقافة والتسامح، كما أنه أب لهم يحنو عليهم أثناء حياتهم الدراسية فهم معه اثنتي عشرة سنة منذ الصف الأول حتى الثاني عشر (الثالث الثانوي) كما أنهم يمضون ثلث يومهم تقريبًا طوال هذه السنوات فلا بد أن يجدوا في ذلك المكان شخصية تماثل والدهم (أو والدتهن بالنسبة للطالبات) لتكون هذه العلاقة مصدر أمن لهم في بيئة المدرسة يلجأون إليها في الملمات ويستشيرونها في المشكلات، والمعلم موجه أيضًا، يوجه مسار تفكير الطالب أو هواجسه وظنونه من الجهة الخاطئة إلى الجهة الصحيحة كما يوجه كل ما يراه من احتمالات التفوق (أو التعثر) باتجاه تربوي خلاق ومنتج، وهذا كله هو ما يجعل مهنته أشرف مهنة وأكثرها استحقاقًا للاحترام ووصف أصحابها بورثة الأنبياء.
أخيرًا دعوني أعود إلى عنوان المقالة (الدلوعة)، ولكن سأترك المعلم خالد الثابت بعباراته (مع بعض التصرف) التي وصلتني على جوالي يخبركم عن خبر عنوان المقال:
من ذكريات المسيرة التعليمية حينما كنت مدرسًا للتربية الفنية للمرحلة المتوسطة لدرس الزخرفة على آنية خزفية فأحضر أحد الطلاب آنية يحملها في كيس وكانت عليه آثار الحزن وعلمت أنها انكسرت وهو قادم للمدرسة وكانت عيناه قد غرقت بالدموع فقلت له لا تحزن فكل ما في أيدينا نستطيع إنتاجه بأحسن حلة فعرضت عليه كيفية إعادة صياغة جماليات الآنية وهي مكسورة ونزينها ببعض القطع الزجاجية ونصهرها بفرن الخزف الذي كان متوافرًا بالمدرسة وبعد أن أخرجناها من الفرن أضفنا عليها قطع الحلي النسائية القديمة لتظهر كالفتاة الدلوعة فأصبحت تحفة فنية، ومنحناها اسم «الدلوعة» للذكرى.
أجزم أن لدينا «خالد الثابت» كثير جدًا في أرجاء مملكتنا المباركة وأتمنى أن أقابلهم واحدًا واحدًا يومًا ما...