د.محمد بن عبدالرحمن البشر
في المقال السابق كتبنا عن اضطهاد محاكم التفتيش للمورسكيين الأندلسيين، متهمينهم ببقاء الإسلام في قلوبهم، وأنهم لم يتحولوا حقاً إلى الكاثوليكية، وأنهم يمارسون شعائر الإسلام سراً.
وفي عام 1575م، وصل أعضاء محكمة التفتيش إلى إحدى البلدان، وطلبوا ممن يمارس الإسلام سراً الاعتراف طواعية، غير أنه لم يتقدَّم أحد، فما كان منهم إلاّ الطلب من أحد وجهاء البلدة السيد/ أنطونيو موراغا المورسكي، أن يقنع بني جلدته بالاعتراف، وإلاّ سيكون هو عرضة للاعتقال عند عودتهم في المرة القادمة.
بعد عام عاد أعضاء المحكمة، لكن السيد/ انطونيو موارغا لم يقدم لهم اسماً واحداً، لذا تم اعتقاله بتهم زائفة، وتقدَّمت زوجة أحد بائعي السلال واسمها السيدة/ باديا، والتي تبلغ من العمر تسعة وعشرين عاماً، واعترفت فتركتها المحكمة لاعترافها الطوعي، بعد أن أخضعتها لتدريب وخلوة إيمانية لترسيخ الكاثوليكية في قلبها.
كان في البلدة كاهن سكير وزير نساء مع كونه كاهناً، لكن يبدو أنه يملك غطاءً سياسياً، واسمه السيد/ الماثنا، وكانت تستهويه السيدة/ باديا زوجة صانع السلال، لكنها بعد وفاة زوجها انتقلت مع ابنتها الصغيرة، إلى منزل السيد/ انطوينو موراغا العجوز، قبل اعتقاله، وكانت تمارس معه ما يمارسه الرجل مع زوجته.
بعد اعتقال السيد/ انطونيو موراغا، كانت تذهب سراً بقميص نظيف لتعطيه عشيقها العجوز المعتقل، واكتشف أمرها، واتهمت أن النظافة من شعائر الإسلام لهذا فإعطاؤها القميص دلالة على إسلامها.
كان للسيدة/ باديا جارة اسمها سمرونه، اعتقلت مع بعض جيرانها بتهمة الإسلام، وتم تعذيبهم وقتلهم، لكن السيدة/ باديا، لم يثبت عليها شيء، ربما بتدبير من الكاهن الذي تستهويه.
بعد سنتين أطلق سراح العجوز السيد/ انطونير موراغا، انتقلت السيدة/ باديا مع ابنتها إلى منزله، وعاشا معاً في هدوء نسبي أكثر من عشرين عاماً، وفي هذه الأثناء تزوج ابن السيد/ انطونيو موارغا، الذي توفيت أمه منذ مدة طويلة بابنة عشيقة والده/ واسمها/ ليونور، وحملت منه.
بعد تلك الأعوام المديدة، عادت محكمة التفتيش في عام 1595م، واعتقلت عدد من المورسكيين بتهمة ممارسة شعائر الإسلام، واعترف أحدهم تحت التعذيب، بأنه دخل ذات مرة على السيدة/ باديا، ووجدها «تغسل أعضاءها المخزية» وهذا يعني أنها تتوضأ، وهذا في حد ذاته جريمة، لأن النظافة بعد الخارج من السبيلين لم يكن سائداً سوى لدى المسلمين.
بعد هذه التهمة، وبعد مرور عام، أي في عام 1596م، اعتقلت السيدة/ باديا ثانية مع ابنتها الحبلى السيدة/ ليونور، زوج ابنتها أيضاً، وجيران آخرين، وكانت التهم ترقى إلى الجرائم الخطرة، وأداء الصلاة، وترك مريض يموت في منزله دون استدعاء الكاهن لمنح الميت موتة طيبة، كما هو سائد لدى الكاثوليك.
لقد كانت هذه التهم كفيلة بتقديمها إلى المحكمة، وأضاف الادعاء إلى هذه التهم، أن أحد الأفراد رآها تأكل على الأرض مع مجموعة من المورسكيين على طريقة المورسكيية، وهذه تعد من الجرائم الكبيرة، اعتقاداً منهم أن ذلك من شعائر الإسلام.
كانت السيدة/ ليونور، ابنة لسيدة/ باديا، وزوجة ابن عشيق أمها الوجيه السيد/ أنطونيو موراغا، تبلغ الواحد والعشرين من العمر، والحبلى من زوجها، كانت جميلة، ناعمة، عضة، بيضة، رداح، متوسطة الطول، ضيقة الخصر، واسعة الصدر، لم ترها الأيام بعد كالح سوادها ولا مرارة حنظلها، وما نفث على جسدها الثعبان سمه، ولا رماها لئيم بغدره وظلمه، لكنها عاشت في روح وريحان، وجداول وجنان، وكأنها تستجلب بيتين من شعر ابن زيدون، إذ يقول:
والرّوضُ، عن مائِه الفضّيّ، مبتسمٌ
كما شقَقتَ، عنِ اللَّبّاتِ، أطواقَا
وردٌ تألّقَ، في ضاحي منابتِهِ
فازْدادَ منهُ الضّحى، في العينِ، إشراقَا
لم تطعم الشابة/ ليونور من قبل، ألم التقييد والمعتقل، ولا تعذيب محاكم التفتيش لصيد الزلل، فذكرت لهم خوفاً أو إرغاماً، أنّ أمها، تصوم رمضان، وتؤدي الصلاة بانتظام، ورمت المسكينة المذعورة نفسها تحت أرجل رجال المحكمة راجية منهم الرأفة بها، وبعد هذا الاعتراف أُخذت أمها السيد/ باديا مع بعض جيرانها إلى العرض الجماهيري التكفيري، وأخذت على بغال لمكان الحرق، وهناك رجمهم الجمهور بالحجارة، ولم يصلوا لمكان الحرق إلاّ وقد فارق البعض منهم الحياة، أما الشابة المذكورة/ ليونور ابنة السيدة/ باديا فقد ولدت ابنها الصغير، الرضيع في زنزانة محكمة التفتيش، وفارق الحياة المولود من ساعته، وأما هي وزوجها فقد اُقتيدا أيضاً إلى المحرقة، فأصابها ما أصاب أمها، وجيرانها.
مأساة حقيقة مؤلمة لأسرة، كاملة مع جيرانها، الأمر لا يستحق هذا التنكيل والألم، قال الله تعالى {كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى}، وفي ذكر الله تعالى كلمة الإنسان، يتبيّن الكثير من البلاغة العظيمة، فهذا يعني أن بعضاً من الناس في كل الدهور والأماكن، ما سلف، وما سيأتي، سيظهر إنساناً يطغى عندما يرى أنه استغنى، بكل ما تحمله كلمة استغنى من معنى شامل.
ولم يصدق المتنبي، حيث يقول:
وَالظّلمُ من شِيَمِ النّفوسِ فإن تجدْ
ذا عِفّةٍ فَلِعِلّةٍ لا يَظْلِمُ
لأن النفس مجبولة على الخير، ولكن إلى النفوس المعتلة، وهي إن شاء الله قليلة هي التي تطغى، فقد عاش بعضاً من المورسكيين في أمن في فترات ومواقع كثيرة، كما دافع عنهم الكثير، وعندما مرضت نفوس الفاعلين، ذاق الكثير من المورسكيين مرارة الطغاة القاسين.