إبراهيم أبو عواد
إن النظريات الاجتماعية التي تُعنَى بتفسير حياة الناس في مُختلف الأزمنة والأمكنة، لَيست أفكارًا ذهنية مُجرَّدة، ولا خَيالات بعيدة عن الواقع، ولا تلاعبًا في الألفاظ والمعاني، ولا تَنميقًا للعبارات الرَّنانة والفلسفات الفخمة، بَل هي إفرازات طبيعية لمشاعر الناس العاديين وأحلامهم وآمالهم، وانعكاس لها، وتجسيد لمسارها.
وفي واقع الأمر، أن الناس العاديين هُم الذين يَبتكرون النظريات الاجتماعية أثناء تحرُّكهم في الحياة معنويًا وماديًّا، ولكنَّهم لا يَملكون القُدرةَ اللغوية على التعبير عن هذه النظريات، وتحويلها إلى عُلوم اجتماعية قائمة على التسلسل المنطقي، الذي يعتمد على الأدلة والحُجَج والبراهين.
ومهمةُ المُفكِّرين تتجلَّى في اصطياد اللحظة الزمنية، وتَدوين المُلاحظات المعرفية، وبناء الهرمية اللغوية المعرفية التراتبية، وتَحويل المبادئ الفكرية الشعبية الصامتة إلى أفكار عِلْمية ناطقة ومنطقية ومُتماسكة، واستنباط النظريات الاجتماعية، وتأسيسها على قواعد المنهج العِلْمي الدقيق، الذي يشتمل على الفروع والأصول، والألفاظ والمعاني، والروحانية والمادية، والمثالية والواقعية.
وكُل عملية استنباط لا بُد لها مِن وُجود منبع (مصدر) يجسد الشرعيةَ التاريخية الأصيلة، ويَمنح شهادةَ المِيلاد للأفكار. وفي هذا السِّياق، تبرز حقيقتان مركزيتان:
الحقيقة الأولى: تاريخ ظُهور الأفكار لا يَقِل أهمية عن الأفكار ذاتها. وهذا يَكشف أهمية التسلسل الزمني لبناء التسلسل الفكري، والزمن ليس حركة ميكانيكية في إطار حياتي محصور بين نُقْطَتَي البداية والنهاية. إن الزمن هو الوعاء التاريخي للأفكار العقلية والأحاسيس الوجدانية، والرَّحِم الحاضنة لبذرة الإبداع الإِنساني. والجنينُ الفكري لا يتكوَّن إلا في رَحِم الزَّمن. وكُل فكرة لا يَدخل الزمنُ في تكوينها الفلسفي، ستسقط في الفراغ. وجُغرافيا الفكر الإنساني لا تُصبح كيانًا ملموسًا إلا في ظِل شرعية التاريخ.
والحقيقةُ الثانية: الاستنباط هو البُنية الفَوقية. ولا تُوجد بُنية فَوقية إلا بوجود بُنية تحتية، والبُنية التحتية في العلوم الاجتماعية تتجلَّى في حياة الناس، وصراعهم مع قَسوة الحياة، ومدى تحمُّلهم للمصاعب، وقُدرتهم على التأقلم مع الظروف الاجتماعية المُتغيِّرة، وسَعْيهم الدؤوب وراء قُوت يَومهم، وتحسين حاضرهم، وتكوين مُستقبلهم. والإنسان - مِثل الحضارة - إذا عَجِزَ عن التأقلم معَ الظروف الصعبة، وفَشِلَ في التَّكَيُّف مع التغيُّرات الاجتماعية المُفاجئة، سَقَطَ في النِّسيان، وخَرَجَ مِن التاريخ، وصار دَيناصورًا مُنْقَرِضًا.
والخُطورةُ تكمن في أن الإنسان إذا وَقَعَ، قد لا تأتيه فُرصة أخرى للوُقوف. والحضارةُ إذا سَقطت، قد لا تَملِك زَمَنًا آخر للنُّهوض. وهذه لَيست فلسفة سَوداوية أو تشاؤمية. صحيحٌ أن الإنسان يجب عليه أن يُحاول باستمرار، ويتعلَّم مِن أخطائه، ويُحاول الوقوفَ مِن جديد إذا وَقَعَ على الأرض، ولا يَيأس. ولكنْ في نفْس الوقت، يجب عليه أن يَعْلَم أن هناك أشياء في الحياة لا تتكرَّر، وكثير مِن الفُرَص لا تُعوَّض. وفي كثير مِن الأحيان، يَكون الخطأ الأول هو الخطأ الأخير، وتَكون الفُرصةُ الأولى هي الفُرصة الوحيدة، وعلى الإنسان أن يَستغلها إلى أقصى حد ممكن، ويَضرب ضَربته الحاسمة، ويَترك بصمته النهائية المُؤثِّرة، والأمر يُشبِه عُود الثِّقاب، فهو لَمَرَّة واحدة فقط، وعلى الإنسان أن يُحافظ على اللهب أطول فترة مُمكنة، لأن مصير عُود الثِّقاب هو الانطفاء الأبدي. ويَكفي الإنسان أن يَعْلَم أن حياته الشخصية واحدة، لا تتكرَّر، ولا تُوجد فُرصة ثانية، ولا مُحاولة أخرى.
والنشاط الإنساني الحياتي اليَومي (الحياة الخارجية)، مُرتبط بشكل وثيق مع بُنية المشاعر والأحاسيس والعواطف (الحياة الداخلية). ولا يُمكن للعلوم الاجتماعية أن تكون منطقية وفعَّالة وقابلة للتطبيق على أرض الواقع، إلا إذا اعتمدت على ربط مادية النظريات الاجتماعية بالمشاعر والأحاسيس المختلطة في ضمائر الناس ودواخلهم. وكُل إنسان - مهما كان مستواه الروحي والمادي - يَخوض معركة يومية في داخله، حيث تَتأجَّج المشاعر في نفْسه، وتختلط الأحاسيس في وجدانه، وتتعارض الأفكار في عقله. وهذه المعركة بين الإنسان ونفْسه تُحدِث ضجيجًا هائلاً في داخل الإِنسان، ولكنَّه ضجيج خَفِيٌّ، ومُستتر، وغَير مَسموع، وغَير مكشوف أمام الناس. ووظيفةُ النظريات الاجتماعية أن تكتشف هذا الضجيج، وتَكشف مَعناه وماهيته، وتُحلِّل أبعادَه، وتُسيطر على انبعاثاته وشَظاياه، وتَدرس تأثيراته في الأنساق الاجتماعية المَحسوسة، والواقعِ اليَومي المُعيش.
وشرعية النظريات الاجتماعية مُستمدة مِن تحويل ضجيج الأفكار وصخب المشاعر في داخل الإِنسان، إلى بُنى فكرية اجتماعية قائمة على التحليل العِلمي المنطقي، والتسلسلِ المعرفي البَنَّاء، الذي يَصهر فوضى المشاعر الإنسانية في بَوتقة المنهج العِلمي، للحُصول على نظريات اجتماعية مُنظَّمة، ذات تماس مُباشر مع حياة الإنسان وأحلامه، وقادرة على إيجاد تفسيرات منطقية للتحوُّلات الاجتماعية على الصعيدَيْن الشُّعوري والوُجودي. وكُل شيء يُمكن تفسيره بشكل عِلْمي مَنهجي، يُمكن السَّيطرة عليه، والتحكُّم به، والاستفادة مِنه.
والتحدي الأساسي أمام كل نظرية اجتماعية يتجلَّى في مدى قُدرة هذه النظرية على تحويل الفوضى الفكرية إلى نظام معرفي، والضجيج العاطفي إلى هُدوء عقلاني، والارتجال الكلامي إلى تخطيط نظري، والعَفوية البسيطة إلى تطبيق عملي مَدروس.
ومِن أجل التغلُّب على هذا التحدي، لا بُد مِن صناعة فلسفة واقعية عملية خاصَّة بالنظريات الاجتماعية، تهدف إلى إيجاد حُلول لمشكلات الإِنسان، وإزالة الحواجز بينه وبين نفْسه مِن جِهة (تحقيق المُصالحة مع الذات)، وبينه وبين مُجتمعه مِن جهة أخرى (تكريس السِّلْم الاجتماعي). وهذا الأمر في غاية الأهمية، لأن القِطار الاجتماعي لا يسير في ظل تعارُض اتجاه العربات. ينبغي أن تكون العرباتُ كُلها مترابطة، وفي اتجاه واحد، كَي يصل القِطار إلى هدفه، ويصل الركاب إلى أحلامهم.
** **
- كاتب من الأردن