إبراهيم أبو عواد
التاريخ ليس ظاهرة عقلية مجردة، أو إحساساً مؤقتاً بالمراحل الزمنية. إن التاريخ شرعية الوجود الإنساني، وماهية المحتوى الاجتماعي التراكمي، الذي يحتضن أحلام الفرد وطموح الجماعة. وكما أنه لا يمكن تصور شجرة بدون جذور، كذلك لا يمكن تصور إنسان بدون تاريخ. والإشكالية في بنية العلاقات الاجتماعية تتجلَّى في اعتبار التاريخ زمناً سابقاً وتراثاً ماضياً، لذلك يرتبط التاريخ في أذهان الناس بالعودة إلى الماضي، والرجوع إلى الوراء، وهذا فهم مغلوط وقاصر، لأن التاريخ شرعية متجددة، وماهية مستمرة، وزمن متواصل، وكتاب مفتوح، وكل إنسان يترك بصمته الشخصية في هذا الكتاب، وكل حضارة تكتب تفاصيل وجودها فيه. وهذا يعني أن صناعة التاريخ تمتاز بالديمومة غير المحدودة بالأطر الزمنية. وفي حقيقة الأمر، نحن نتقدم إلى التاريخ، ولا نعود إلى التاريخ، لأن التاريخ معنا وفينا، بكل إيجابياته وسلبياته. والعودة إلى الشيء تعني غيابه عن المشهد الراهن، ومحاولة استرجاعه من ذاكرة الماضي السحيق، ونقله من الماضي إلى الحاضر. في حين أن التاريخ حاضر في قلب الأحداث اليومية، وليس غائباً حتى يتم استرجاعه، ولا يوجد وراء ظهورنا كي نحاول إحضاره أمام أعيننا. إن التاريخ كائن حي نتعامل معه، ويتعامل معنا، في كل وقت وحين. وهو كتاب مفتوح على الماضي والحاضر والمستقبل معاً، ضمن عملية صهر المراحل في بوتقة الوجود الإنساني. والإنسان يعيش في قلب التاريخ. وهذا يعني أن التاريخ ليس غائباً تنتظر عودته، وليس تراثاً ضائعاً في متاهة الماضي حتى يسترجع، وينفض عنه الغبار، وليس فعلاً ماضياً حتى يسعى إلى تحويله إلى فعل مضارع.
* * *
الشجرة الباسقة لا تعتبر جذورها مجرد مرحلة زمنية أتت وانقضت، وتم تجاوزها. وتاريخ الشجرة كيان واحد متماسك، يتمتع بالاستمرارية المعنوية والمادية، ويمتاز بديمومة الحياة، ولا يمكن فصل الجذور عن الأغصان، ولا يوجد صراع حول شرعية الوجود بين الجذور والأغصان، ولا أحد يطرح سؤال: من الأكثر أهمية الجذور أم الأغصان؟ لأن منظومة (الأصل السابق/ الفرع اللاحق) تتحرك في قلب الحياة بشكل متوازن ومنسق وفعَّال لإنتاج الثمر. ووجود الثمر يعني أن أجزاء الشجرة جميعها تعمل بروح الفريق الواحد، دون صراع، ولا صدام، وأن جميع الوسائل والجهود متضافرة ومرتبطة معاً، من أجل الوصول إلى النتيجة المرضية. والعناصر تعرف وظيفتها بدقة ضمن الكيان الواحد، وهي مشغولة بالعمل وإنتاج الثمر. والعمل والجدل ضدان لا يجتمعان، ونقيضان لا يلتقيان. إذا حضر أحدهما غاب الآخر. وهذا يشير إلى أن دوران عجلة الإنتاج هو الحل السحري لسد الثغرات، وإزالة الخصومات، وإنهاء النزاعات، لأن الجهود عندئذ تكون موحّدة ومركّزة وموجهة نحو التقدم والإنتاج والازدهار. وإذا كان فريق العمل يسعى إلى هدف مشترك، وغاية واحدة، ستزول جميع الخلافات بين أفراده. أما إذا زال الهدف المشترك، واختفت الغاية الواحدة، وتوقفت عجلة الإنتاج، فعندئذ ستظهر الصراعات بين أفراد فريق العمل، ويسيطر عليهم التناحر والنزاع، ويغرقون في الفرقة والصدام.
* * *
كل شجرة موجودة في هذه الحياة تحمل شرعيتها الذاتية (الجذور)، وهويتها الخاصة (الأغصان)، ومظهرها الجذاب (الثمار). وهذا يجعل شخصية الشجرة متماسكة، بلا انفصام، ولا تشتت. ويجعل كيانها راسخاً بلا صراع بين الماضي والحاضر. وكل إنسان على قيد الحياة، لا يتحرك في هذا الوجود وحيداً، وإنما يتحرك حاملاً آباءه في شخصيته الاعتبارية وطبيعة تكوينه المعنوي والمادي. والإنسان جزء من سلالة مستمرة ومتواصلة، لذلك يعيش الماضي والحاضر والمستقبل معاً. والأب ليس مجموعة جينات وراثية عفا عليها الزمن، وذهبت إلى النسيان. إن الأب وجود وشرعية وشخصية ومعنى وفكر. وكذلك التاريخ.
* * *
التاريخ ليس كومة من الأفعال الماضية التي ضاعت في إحدى زوايا ذاكرة التراث. إن التاريخ فعل متجدد، يولد باستمرار، ويتكاثر بلا توقف، وهو مرتبط بأدق التفاصيل الإنسانية اليومية المعاشة، ومغروس في الوعي (العقل في حالة الإدراك) واللا وعي (الشعور الباطن الذي ينشأ دون إدراك). وتاريخ الإنسان مثل جلده، لا يستطيع أن يغيره حتى لو أراد ذلك. وكل محاولة لمحاربة التاريخ ستبوء بالفشل، والواجب على الإنسان أن يساهم في صناعة التاريخ، وترك بصمته الشخصية، وغرس وجهة نظره، وتكريس رؤيته الشخصية النابعة من تجاربه الشعورية والواقعية. وصناعة التاريخ معركة حقيقية يخوضها الإنسان ضد أحزانه وإخفاقاته ونقاط ضعفه، من أجل الوصول إلى حالة التوازن الروحي، والسلام مع ذاته والآخرين، والمصالحة مع عناصر الطبيعة. وما دام الإنسان في قلب المعركة (صناعة التاريخ)، فهو يعيش أجواء المعركة بروحه وعقله وجسده، وعليه أن يكون صوتاً لنفسه لا صدى لأصوات الآخرين. والحياة قصيرة، وهذا يعني ضرورة أن يترك الإنسان بصمته الشخصية، ويعيش حياته الذاتية، ويكون نفسه، ولا يتقمص شخصيات الآخرين، ولا يعيش حياتهم.