د.محمد بن عبدالرحمن البشر
الأديان جميعها، اليهودية، والمسيحية، والإسلام، وحتى الصابئة، والمعتقدات مثل، الطاوية، والكونفوشيوسية، والبوذية، وغيرها، تحث على الخير، وعلى مكارم الأخلاق، والرأفة والتسامح، وإسعاد البشرية، لكن ثمة متطرفين، يتدثرون بلباس التقوى للوصول إلى غايات سياسية، أو اقتصادية، أو اجتماعية، وهناك جهلة رعاع وراء كل ناعق يسيرون خلف الركب دون أن يعرفوا اتجاهه، والإيمان أيّاً كانت صبغته وصيغته ملاذ وأمل، فهو ملاذ من الظلم، والقهر، وهو أمل في اليسر بعد العسر، سواء كان ذلك العسر أمناً، أو مالاً، أو صحة، أو ذرية، أو غيرها من متطلبات الحياة، وشهوات النفس.
وما حلَّ بالمورسكيين في الأندلس وهم المسلمين الذين تنصروا وبقوا أنموذجاً، فبعد سلسلة من المعاناة والاستبداد والذل، كان الطرد القهري الجائر الخالي من الرحمة، نهاية المطاف على يد فيليب الثالث. كان فيليب الثاني، والد فيليب الثالث يحكم كثيراً من بلدان العالم في أوروبا، وأمريكا، وآسيا، وكان حذراً، يقيس مقدار الربح والخسارة في كثير من القرارات التي يتخذها، رغم ظلمه، وتطرفه الكاثوليكي، وهو يحاول الوصول إلى مراده المتطرف بأقل الخسائر.
بعد وفاته تولى الحكم ابنه فيليب الثالث، الضعيف جسدياً في بداية القرن السابع، وغير النابه عقلياً، والمتردد، والفاقد للشخصية المؤثرة، وهو خليط من المتناقضات، حيث يقضي ثلاث ساعات يومياً في الدعاء والصلاة والتقرب إلى الرب، ولا يتغيب عن الكنيسة يوم الأحد، ومع ذلك فهو يضيع كثيراً من وقته في حياة باذخة شهدها بلاطه وقصوره، فقد كان محباً للعب الورق، والمسرحيات والتمثيليات، والطرب والموسيقي، والصيد البري، الذي يستمتع بع كثيراً، وكان يقيم موائد باذخة حتى أنه ذات يوم أقام مأدبة، قَّدم فيها ستمائة طبق مختلف، كان ذلك في عام 1611 ميلادية.
ومع هذا فقد منح البابا له لقب/ القديس الصغير لتدينه، وتدين زوجته التي زفت إليه من النمسا وهي لم تبلغ الرابعة عشرة، ولم يرها من قبل، ولم تتدخل في السياسة، لكنها كانت تدفعه إلى التمسك بالورع بمفهوم خاطئ، لأن الورع لا يظلم ولا يتطرف، بل يحب ويتسامح وينشر السلام، كما يشير به عيسى عليه السلام.
كان أكثر المؤثرين عليه معلمه الدوق ليرما، الذي يكبره بخمسة وعشرين ربيعاً، ولم يكن معلماً وحسب، بل مستشاراً، ورئيساً فعلياً للوزراء، بل ربما القول أنه الحاكم الفعلي، في زمن ألف ملوك أوروبا تفويض سلطانهم إلى من يثقون فيه، سواء من الأسرة أو خارجها، وفي ظني لو كانت زوجته ترغب في السياسة، وتدبير شئون الحكم، لكانت هي الحاكم الفعلي، في زمن فيليب الثالث، غير الكفؤ لمنصبه، وقد نقل عن والده الملك فيليب الثاني قوله: (أن الله أعطاني الكثير من الممالك لكن حرمني من ابن قادر على حكمها).. ربما أن العقل الباطن للملك فيليب الثالث، وسجيته قد دفعاه إلى فلسفة فطرية كثيراً ما تطرق أبواب البشر، والمتمثلة في البعد عن عناء المسؤولية وهمومها، طالما أن هناك من يقوم بأعبائها، ويوفر للمرء مناخاً يسمح له فيه بقضاء ما يشتهيه دون عناء.
لم يبلغ أحد ما بلغه السيد/ ليرما في عهد الملك فيليب الثالث، ولم يحضر سوى اثنتين وعشرين جلسة من اجتماعات مجلس الدولة التي تجاوزت سبعمائة جلسة، لكن لا يصدر قرار قط، إلا وقد وافق عليه السيد/ ليرما، والحقيقة أن تمكنه من إدارة شئون العائلة المالكة بحنكة فائقة، جعلت أعداءه داخل الأسرة قليلين؛ ويبدو أن الله قد قبض له ظروف مناسبة، فالملك ضعيف الشخصية، وزوجة الملك عازفة عن التدخل في شئون الحكم، وليس للملك داخل العائلة منافس يستحق الذكر، وكأنه قد انطبق عليه قول الشاعر:
صفا لك الجو فبيضي، وأصفري
ونقري ما شئت أن تنقري
وقد استغل منصبه، فعيّن أقرباءه، وأصدقاءه، وأنسابه، ومحاسبيه في المناصب العليا، في البلاط الملكي، وفي الحكومة، وكون ثروة هائلة، ليشبع نهمه، حيث ولد في عائلة معدومة نسبياً. مع كل هذا، ومع ذكائه، وما أضحى بين يديه من سلطة ونعيم، فقد كان الاكتئاب رفيق دربه، حتى إن نوبات طويلة من الاكتئاب تنتابه بصفة متكررة بين الفنية والأخرى، فيجنح إلى الخلوة، ولا أحد يعلم ما كان يدور في خلده، ولا مقدار الأسى الذي يوهن عظمه وجهده، لكنها الأيام لا تصفو لأحد ولا تدوم، حتى وأن اتسقت عصائر الكروم، فلا تأمنها إذا ما أقبلت، وباض الحمام على الوتد، ولا إذا ما أدبرت، وبال الحمار على الأسد يقول الشاعر:
إذا أقبلت باض الحمام على الوتد
وإذا أدبرت بال الحمار على الأسد
فهي للكدر أقرب، وكل إلى زوال، راجين من الله حسن المآل.