د. عبدالحق عزوزي
يعرف المتضلعون في العلاقات الدولية أننا ننتمي إلى عالم معولم يتغير بسرعة ونعيش أكثر من أي وقت مضى تحت سقف واحد ونرى شاشات تلفزية متنوعة تنقل إلينا أخباراً متعددة وصورا متنوعة وتختلف وجهات نظرنا وردات أفعالنا حسب التكوين والبيئة إلى غير ذلك؛ فلم يكن العالم يوما قارا أو ساكنا فانتفض فجأة لا! ولا الكرة الأرضية على ثبات وإذا هي تتحرك فجأة! ولكن العالم يتراءى إلينا وهو يتغير بسرعة كبيرة وبوتيرة أعمق، ولم يستقر على حال يمكن أن يوصف بالديمومة أو الثبات؛ لذا فالحيرة تصيبنا عندما نريد أن نقوم بتحليل لنظام إقليمي أو دولي هما في جوهرهما متغيران وانتقاليان على الدوام، ونسعى أن نتوقع نظاماً دولياً أو إقليمياً لهما قدر كاف من الاستقرار والثبات؛ ومن هنا نفهم محدودية تلك النظريات في مجال العلاقات الدولية التي تذبل قبل جفاف الحبر الذي كتبت به، والأفكار التي تولد ميتة؛ والنتيجة أن رؤية المستقبل صعبة جدا وتحديد معالمها أصعب مما يمكن تصوره؛ والسؤال المطروح هو مدى تأثر العالم العربي والإسلامي بالتحولات العالمية قبل أن يتأثر هو نفسه بالتحولات العربية نفسها؟ المشكل في العالم العربي مثلا هو أنه يقع في منطقة حساسة جدا، أي على موقع نقطة التقاء قارات ثلاث، وفي منطقة مرغوب فيها جدا لأنها تتوفر على مخزون هائل من النفط متوفر تحت صحرائها وبمنطقة جغرافية حساسة بسبب جيرتها المباشرة بالكيان الصهيوني؛ فاجتماع هاته العوامل جعلت المنطقة العربية في جوهر الشأن الدولي أو الاستراتيجية الدولية؛ والمشكل الثاني أن المنطقة العربية رغم هاته العوامل المحددة لتموقعها داخل النظام الدولي هي لاعب غير قوي بسبب غياب الوحدة والقوة والمناعة بما يسمح لها بمجاراة التكتلات الجهوية والإقليمية والدولية...
إذن محنتنا العرب الدائمة هي في تلك الإشكالية القائمة من جانب على تواضع عناصر القوة التي نتوفر عليها داخل النظام الدولي بسبب غياب الوحدة والتشرذم، ومن جانب آخر على تواجدهم في موقع حساس بمعطياته الجغرافية والاقتصادية والدينية؛ فالجانب الثاني ليس بمشكل في منظور قواعد الاستراتيجية والتمركز داخل النظام العالمي ولكنه يغدو مشكلا في غياب الوحدة، وهذا ما عاشته منطقتنا وما تعيشه اليوم وما ستعيشه إذا لم تصلح آليات التعاون المشترك، ولا يظنن ظان أن هذا التعاون يجب أن يكون سياسيا، فهناك عوامل متعددة تحقق الرخاء للمجموعات الإقليمية وعلى رأسها التربية والعلوم والثقافة، التي يجب أن تكون شغل الشاغل للفاعلين في العلاقات الدولية وعلى رأسها المنظمات الدولية والإقليمية، وللذكر فإن طلبتنا في الجامعة يعرفون أن من بين تلكم الفاعلين، لا توجد فقط الدول وإنما الشركات العابرة للقارات والمنظمات الدولية والإقليمية بل وحتى الأفراد...
أقول هذا الكلام لأنني أعجبت أيما إعجاب بما يقوم به الدكتور سالم بن محمد المالك الذي يوجد على رأس منظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة (إيسيسكو)، فاستراتيجيته مبنية على ضرورة النظرة المستقبلية للأمور وما يخدم الدول الأعضاء في مجالات التربية والعلوم والثقافة لأنها الدينامو لتنمية وتطوير المجتمعات وتحقيق الرخاء المعرفي وبناء المجتمعات الثقافية الحديثة؛ ولا أدل على ذلك من تبني المجلس التنفيذي المنعقد في مدينة أبوظبي في 29-30 يناير 2020م والذي فوضه المؤتمر العام الاستثنائي المنعقد في مدينة الملك عبدالله الاقتصادية في 9 مايو 2019م - 4 رمضان 1440هـ بجميع صلاحياته.
ومن بين هاته الإنجازات التي تعكس الرؤية الجديدة للمنظمة: تغيير الاسم إلى منظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة لتخدم المجتمعات المسلمة خارج المحيط الإسلامي؛ تبني ميثاق جديد ونظام وظيفي جديد وهيكل تنظيمي جديد؛ إنشاء وقف الإيسيسكو التنموي؛ إنشاء مجلس استشاري دولي؛ رؤية استشرافية استباقية خلاقة؛ شعار جديد؛ إنشاء مركز الاستشراف الإستراتيجي؛ إنشاء مركز اللغة العربية لغير الناطقين بها؛ إنشاء مركز تسجيل التراث الإسلامي، وغير ذلك.
ولي يقين أن هاته المنظمة ستصبح فاعلة في العلاقات الدولية من خلال حكمة المنتسبين إليها؛ ودائما ما يتعجب طلبتي في الجامعة عندما أشرح لهم كلمة «فاعل» وأقول لهم إنه حتى بعض الأفراد يمكن أن يشكلوا فاعلين في العلاقات الدولية، فأقول لهم: كيف تفسرون أن الرئيس الصيني في إحدى زياراته إلى أمريكا، عندما حلت طائرته بالعاصمة الأمريكية، قام بزيارة إلى الميلياردير بيل غيتس صاحب شركة ميكروسوفت قبل أن يذهب إلى البيت الأبيض؟ لأن الملياردير الأمريكي هو ذو مكنة وذو نفوذ دولي في مجال تخصصه، ويمكن أن تحقق معه الصين شراكات تتعدى تلك التي يمكن أن تحققها مع دول مجتمعة... هذا هو معنى الفاعل. والمنظمات الإقليمية والدولية الناجحة مثل اليونسكو وغيرها ما أصبح لها الدور الذي تضطلع به اليوم إلا لأنها نجحت في وضع قدم سبق لها «كفاعل إقليمي ودولي» في المجال الذي من أجله أسست له...