د.عبد العزيز الصقعبي
رأته ينهار، لم تقدر على فعل شيء، أرادت أن تصرخ فخانها صوتها، كان يجلس أمامها، يتحدث، منذ أكثر من ساعة وهو يتحدث، لم يكن يتحدث عن نفسه فقط، بل عن كل من حوله، لم يترك لها فرصة أن تقاطعه أو تعلق على كلامه، كأنه قام بتكميمها، جعلها لا تقدر أن تتفوه بكلمة واحدة، ربما مزَّق جميع حبالها الصوتية، هو يتحدث، وهي تستمع، هو يتعذب بكلماته التي تخرج من فمه، وهي تحترق بوهجها، تحترق، يرى ويعلم أنه يمارس جريمة قتل، بدون أسلحة، بل بالكلمات التي بدأت تمخر جسده.
سنوات طويلة مرت منذ أن أمسك بيدها ليواصلا السير معاً.
لنترك مساحة كبيرة من الفراغ والبياض، لنترك مساحة مملوءة بكل شيء له علاقة بهما، لفترة طويلة، ليست سنة، بل سنوات، تتسم بالطول والعمق، وتمتد حتى تختفي تفاصيل بداياتها، ربما اختفت تلك التفاصيل من ذاكرتيهما، حتماً تمت جريمة سطو انتزعت كل الذكريات والأحداث، من جمجمتيهما، وأبقت الفراغ الذي ما لبث أن امتلأ بمخلفات حروب، ونفايات سامة.
يعرف أنه في زمن ما أمسك بيدها، وتعرف هي أن يده كانت مرسى جميلاً لحياتها، ولكن فجأة وجدت يدها محاطة بالفراغ، ليس هنالك بحر ولا أرض يابسة، ولا سماء، ليس هنالك ما تمسك به يدها إلا عنقها فكادت أن تخنق نفسها، ولكن حين شعرت بالألم، بدأت تسمع صوته يتحدث، وبدأ يتضح كل ما حولها، قد تكون جالسة في حديقة، هذا ما شعرت به أولاً فثمة أشجار حولها، و هنالك طاولة صغيرة مرتفعة قليلاً، حولها عدة كراسي، هي تجلس على كرسي، وهو يجلس على الكرسي المقابل، كان يتحدث، أرادت أن تتأمل ملامحه، لم تستطع، يبدو في البداية، طفلاً صغيراً، يكبر، صوته لم يتغير، صوت رجل كبير منهك، ولكن ملامحه تتغير، شارب خفيف، يصبح كثاً، ذقن صغيرة، تطول، تقصر، تختفي مع الشارب، فيبدو رجلا كبيراً أمرداً، تتضح تعاريج الوجه، يتكلم، حديث موجه لها، هي واثقة أن كل كلمة موجهة لها، لذا فهي حريصة أن تستوعب كل الكلمات لا تريد أن تفقد أي كلمة منها، الكراسي التي حولهما خاوية، لا أحد غيرهما في ذلك المكان، ربما حديقة منزل، ولكن الأشجار المحيطة بهما كبيرة، وشائكة، ليست غابة، الأشجار ليست كثيرة ولا كثيفة الأوراق، ولا تصلح أن تكون داخل بيت ربما أشجار طلح، هل هما في صحراء، الأرض ترابية، تحاول أن تقف وتلقي نظرة على ما حولها، لتعرف أين تكون، لا تقدر مطلقاً، قدماها فقدتا الحياة منذ زمن، لذا فهي جالسة على كرسي متحرك، ولكن ما يريحها ويعذبها في الوقت ذاته أنه جالس أمامها يتحدث، والذي أراحها أكثر أن ملامحه بقيت ثابته على هيئة رجل عجوز بشعر خفيف أشيب يغطي الجزء لأسفل من وجهه، لدرجة أن من يشاهده من مسافة بعيدة يتخيل أنه حليق الشارب والذقن.
هو يتحدث.. هو.. يتحدث.. هذا الأمر الذي تعرفه جيداً، والذي لا تنكره، متعة مشوبة بعذاب، الكلمات التي تخرج من فمه منتقاة بعناية، لا تعرف كيف استطاع أن يقدم تلك الكلمات لها بتلك الصورة الأنيقة لدرجة أنها بدأت بتجميع الكلمات على الطاولة أمامها، وصنعت منها بيوتاً وسيارات فارهة، قامت بتنسيق مجموعة من الكلمات الناعمة صانعة منها شكلاً أشبه بالقلب، بل بالفعل هو قلب، لأنها حين انتهت من تشكيلة بدأ ذلك القلب ينبض بقوة، كاد صوت ذلك النبض أن يغطي على صوته، ولكن كعادته، أرسل مجموعة من الكلمات الحارقة لتذيب القلب أمامها، لتتشكل على الطاولة بقعة حمراء مشوبة بالصفرة، حزنت كثيراً، بفقدها قلباً كبيراً ربما لو بقي لشعرت بالدفء، بدأت تبكي، ذرفت دموعاً غزيرة، التقفها سطح الطاولة ليمحو تلك الحمرة المشوبة بالصفار.
بقي يتحدث، وبقيت تستمع إليه، تمنت لو لم تكن الوحيدة التي تستمع لذلك الرجل الذي فقدت دفء يده منذ زمن طويل، لا تدري هل هو يتحدث بحديث يصلح أن يستمع إليه الجميع أو يتكلم معها بصفة خاصة، هو يتحدث أو يتكلم عن كل شيء، كل شيء له علاقة بهما، كل شيء يشعر أنها تريد بصدق أن تسمعه منه، وهذا ما يعذبه كثيراً، هي تشعر بذلك، وتراه يتعذب، ينهار، يكاد أن يتلاشى، فتبحث عن صورة أمامها من بين الصور التي تتأملها له لتسمعه يتحدث.
هي جالسة بينهما طاولة عليها مجموعة من الصور، وحولهما مقاعد خاوية، تسمعه يتحدث، وتعلم أنه لا يتحدث إلا لها فقط.
ساعة تجلسها وحيدة، في حديقة منزل قديم، تعيش مثقلة بالذكريات، تتأمل صوره، وتستمع إليه وهو يحدثها عن حكاية رجل تزوج امرأة، عاش معها سنوات طويلة، ومات.