أ.د.محمد بن حسن الزير
لقد كان إخراج ابن معمر للشيخ من الدرعية أمرًا شديدًا، ومرحلة عسيرة جديدة يمر بها الشيخ والدعوة، وهي ابتلاء جديد، يتعرض له الشيخ ضمن سلسلة ألوان الاختبار والابتلاءات التي واجهها، منذ أن وضع نفسه لخدمة أهدافه الإصلاحية، ونذرها لتجديد أثر الدين في نفوس الناس وحياتهم؛ من حوله في بيئته وفي البيئات المجاورة وغيرها من بلاد المسلمين المحتاجة لهذا الإصلاح وذلك التجديد؛ ولكن إيمان الشيخ بالقضية التي يتصدى لها، ويقينه بأنها حق مبين، وأن الله على نصره لقدير، جعله يتلقى ذلك الأمر، ويواجه هذا التحدي الجديد، بما فيه من إيمان ويقين وثقة في الله واعتماد عليه.
إن الشيخ في هذه المرحلة؛ على شدة عُسرها، وسَوْرَة معاناتها، وما يحفها من مخاطر وأهوال، لم تساوره للحظة أحاسيس أنه يواجه مصيرًا مجهولاً؛ ودليل ذلك ما كان بينه وبين أمير العيينة، وقد أصابه الهلع، من وعيد صاحب الأحساء ووعيده، فقد كان يعظه، ويحاول تثبيت رباطة جأشه، ويتحدث معه حديث الواثق بنصر الله لدينه وعباده المؤمنين، وأنه إن فعل ذلك ملك البلاد ودان له العباد.
وفي تلك الظروف (العصيبة) عام 1157هـ، وفي تلك الأحوال التي تبدو للناظر فيها لأول وهلة، أن الشك في أن يجد الشيخ له ملاذًا، أو ناصرًا، هو سيد الموقف؛ ولكن بالنسبة للشيخ وأمثاله من المؤمنين الذين يرون الأمور (بنور الله) كان الموقف يبدو له على نحو آخر، وكان يرى (بوارق الفلاح والتوفيق) تلوح له في ثنايا الشدة، و»اشتدي أزمة تنفرجي» و»مع الصبر الظفر»؛ وذلك حين قرر أن يتجه إلى (الدرعية) وهنا يرد السؤال؛ لماذا اختار الشيخ أن يذهب إلى الدرعية وليس إلى بلد آخر، أو منطقة أخرى؛ كمثل بلد (الرياض) على سبيل المثال وفيها (دهام بن دواس)؛ والجواب على ذلك، أن الدرعية كانت تمتاز بأن فيها (بيئة علمية فتية تحتضن دعوة الشيخ وتوجهاته) من خلال وجود طائفة من طلاب الشيخ ومريديه، وهم عدد غير قليل ممن كانوا يتلقون دروس الشيخ ومحاضراته في العيينة، وكان من بينهم (عبد العزيز بن محمد بن سعود) الإمام فيما بعد، وآل سويلم؛(عبدالله بن سويلم) و(محمد بن سويلم) وغيرهم، وكانوا بمنزلة الأنصار له، قد سبقوه، وما أشبه الليلة بالبارحة، في مسيرة الدعوة لدين الله، وإخلاص أهلها، وإنها لتذكرنا، بحقبة من تاريخ الدعوة وبأنصار دعوة الإسلام في فجره الأول على يد الرسول الأمين؛ محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وسلم، ومن معه من المهاجرين والأنصار، رضوان الله عليهم أجمعين.
وقد تلقى الشيخ (مشورة طلابه) عليه بأن يقدم إلى الدرعية، بقبول حسن، فتو جه من العيينة إلى الدرعية صبيحة يوم (قائظ شديد الحرارة) وليس معه سوى مروحة من سعف النخل، يلهج لسانه بالدعاء والتسبيح وذكر الله، ويتلو قول الله تعالى: «ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب» الطلاق 3، ويردد: «سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر» إلى أن وصل إلى أعلى الدرعية وقت العصر؛ ابن بشر1 - 11).
وعند آل سويلم في حي (الطريف) استقر بالشيخ المقام؛ ولكن المخاوف أخذت تستبد بابن سويلم خشية غضب (أمير الدرعية) «محمد بن سعود» وبخاصة أن قدوم مثل هذا الشيخ، في ظل تلك الأجواء المحفوفة بالهواجس والمخاوف والمخاطر، جرَّاء (شُهْرة معاداة القوى المحلية وغيرها من بلاد العرب وخارجها له وملاحقتها لمن يؤويه ويناصره، ويرون فيه المغرم لا المغنم؛ وأنه يحمل معه خطر معاداة تلك القوى ومعاداتها)؛ ولكن الشيخ هدَّأ من روعه» فوعظه الشيخ وأسكن جأشه، وقال سيجعل الله (لنا ولك) فرجًا ومخرجًا. فعلم به بعض خصائص من أهل الدرعية فزاروه خفية، فقر لهم التوحيد واستقر في قلوبهم، فأرادوا أن يخبروا (محمد بن سعود) ويشيروا عليه بنصرته (فهابوه)..» (ابن بشر1 - 11).
والواقع أنه من حق ابن سويلم أن يخاف، ومن حق مريدي الشيخ أن يزوروه سرًا، وأن (يهابوا) إخبار (محمد بن سعود) عن وجود الشيخ في بلده؛ لأن أمير البلد هو الآخر من حقه أن يكون له موقف سياسي يتناسب مع الوضع السياسي العام القائم الذي ليس في صالح الشيخ ولا في صالح أمره (الجديد) الذي أظهرت له قوى كثيرة المخالفة والمعاداة، ومن حقه أن يخشى من تسلطهم عليه وعلى إمارته؛ وليس من الحكمة السياسية في تلك الأجواء، أن يقوم (حاكم) بإيواء مثل هذا الشيخ وإظهار مناصرته وتوفير ملاذ آمن له، بسبب ما سيؤدي إليه مثل هذا الموقف من استجلاب العداوات، والوقوع تحت طائلة الاستهداف من تلك القوى المتعددة؛ وهنا لا بد أن نتوقف عند موقف (ابن سعود) وهو يتقبل رأي أخويه؛ (مشاري وثنيان) ورأي زوجته (موضي بنت أبي وحطان) الذين التجأ إليهم (ابن سويلم) (تاريخ نجد للألوسي، دار الوراق للنشر ص152) ومن معه من طلاب الشيخ ومريديه، لتعريف الأمير عن الشيخ وحقيقة أمره ونقاء دعوته، وأنه قبل ما عرضوه عليه في رغبة وإقبال، ونظرته إلى هذا الشيخ نظرة (غير ذات مصلحة سياسية) وإنما هي نظرة (ذات مصلحة دينية) والمشيرون عليه؛ إنما ولجوا عليه في حديثهم إليه وترغيبه في نصرة الشيخ ودعوته، من باب المكاسب (الدينية) لا من باب المكاسب (السياسية الدنيوية) وتهيأت نفسيته (بتوفيق الله له) لأن تجيش (بنية صالحة) لنصرة دين الله، وأن هذا خير ساقه الله، وأنه يستحق أن يقدم في سبيل الظفر بشرف هذه النصرة ما يستطيع، وشرح الله صدره للإقدام على ذلك، وإمعانًا من الأمير في توقير الشيخ وإظهار تقديره والاحتفاء به، ذهب إليه عند ابن سويلم، ورحب به، وتعرف منه مباشرة على حقيقة دعوته، ووافقه على أمره، وتعاهدا على نصرة دين الله القويم في ضوء كتاب الله الكريم، وسنة نبيه، عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، ويا لها من نعمة عُظمى، ومنة كُبرى، منّ الله بها على هذين الإمامين العظيمين، وقد وفقهما إلى أن يحملا مهمة خدمة دين الله ونصرته (بنية خيّرة صالحة وبعمل خيّرصالح) في وقت كان الدين والناس في حاجة إلى تلك النصرة، ومنّ الله بها أيضًا على هذه البلد وأهلها، والمسلمين جميعا، إلى يومنا هذا، والحمد لله رب العالمين.
وهنا ندرك أن تلك (الظروف العصيبة) بالنسبة للشيخ ودعوته، كانت (منتجة) لتجربة (خاصة) تكشف عن (صاحب موقف) يكون أهلاً لأن يتخذ موقفًا (صالحًا) مدفوعًا بنية (صالحة) تجعله متهيئًا وقادرًا على اتخاذ مواقف تتجاوز النظر إلى (الحسابات السياسية والمكاسب الدنيوية) إلى موقف يتطلع إلى (المكاسب الدينية) المتعلقة باستهداف (مرضاة الله بنصرة دينه)؛ ولهذا فلا أجدني مشاطرًا للأستاذ (عبدالله بن خميس) -رحمه الله- (رأيه) الذي أبداه في معرض حديثه عن الدرعية، وعن حاكمها (محمد بن سعود) الذي» كان حصيفًا ومفكرًا وبعيد نظر وقوي إرادة» وكان صاحب فراسة وبعد نظر، بلا شك، وذلك حين ألمح إلى تفسير استقباله للشيخ في قوله: «.. وسواء أكان استقباله لابن عبد الوهاب عن دراية ومعرفة بأحوال الأمم وفلسفة الحكم ومنهجه الصحيح الذي يقوم عليه.. أم أن ذلك منه كان عن قناعة عقلية وفراسة وبعد نظر، مع توفيق الله وتفوذ إرادته سبحانه» (معجم اليمامة1 - 417).
وقد دعا (الأمرُ) (الشيخَ) إلى الإقامة معه في حي (سمحان) ومنحه سكنًا في حي (البجيري) حيث أقام مدرسته وواصل تعليم طلابه. وللحديث صلة.