د.محمد بن عبدالرحمن البشر
هناك شخصيات مثيرة، شاركت في التداول قبل الطرد النهائي للمورسكيين، الذين هم بقايا المسلمين الذين تنصروا، وبقوا في إسبانيا. ومن أهم تلك الشخصيات السيد/ الملك فيليب الثالث، المتدين، واللاهي في الوقت نفسه، وزوجته السيدة/ مارغريت النمساوية شديدة التدين، والسيد/ ريبيرا، وهو من أكثر الأشخاص إلحاحًا على الطرد في عهد فيليب الثاني الذي لم يأخذ برأيه لرجاجة عقله في الأخذ بالتوازن بين الإيجابيات والسلبيات، وأيضًا في عهد الملك فيليب الثالث الضعيف الذي استطاع التأثير عليه؛ وتم طرد المورسكيين في عهده.
والسيد ريبيرا وُلد في بلدة/ أنسيدليا عام 1532 ميلاديًّا لعائلة أندلسية غنية، وبدأ بدراسة القانون الكنسي وهو في الثانية عشرة من العمر، كما درس علم اللاهوت في إحدى الجامعات، وبعد تخرجه أصبح كاهنًا، ثم أسقفًا في بطليموس عام 1562 ميلاديًّا، ثم عيَّنه الملك فيليب الثاني رئيسًا لأساقفة بلنسية في عام 1568 ميلاديًّا، ومنحه لقبًا شرفيًّا «بطريك أنطاكية»، وهو لقب يرمز لماضي الدولة البيزنطية المجيد الذي أنهاه الظاهر بيربس المملوكي، وهو لقب يصعب الحصول عليه في سن مبكرة، لكن السيد/ ريبيرا ناله وهو في الحادية والثلاثين من العمر؛ وكان السبب وراء ذلك تدينه الشديد، وورعه، وإيمانه بالحرص على مصالح المذهب الكاثوليكي، والتبشير به، ولكن لم يكن مرحَّبًا به في الأوساط الدينية الأندلسية، كما هي العادة البشرية، خشية المنافسة والتغلب، وهو ما حدث بالفعل.
لقد كان في بداية الأمر حريصًا على هداية المورسكيين بالحسنى، كما يدَّعي، أي يوثق الكاثوليكية في نفوسهم، ويزيل ما قد بقي من إرث إسلامي، أو حتى مظاهره؛ ليصلوا إلى صفاء العقيدة الكاثوليكية. ولتحقيق هذا الغرض رفع رواتب الكهنة، وعمل برنامجًا تبشيريًّا ظانًّا أن ذلك سيفي بالغرض.
في عام 1577 ميلاديًّا تبين للسيد/ ريبيرا أن جهوده باءت بالفشل، ورأى أن المورسكيين يخدعونه بالتظاهر بالتعاليم الكاثوليكية، لكن كانوا في الحقيقة غير مبالين؛ وإنما يفعلون ذلك خوفًا أو طمعًا. وقد أراد أن يكون لاستنتاجه وهجٌ؛ فأعلنه في خطبته التي سماها التربة والبذرة، التي قال فيها إن البذرة إذا لم تثمر فليس العيب في البذرة أو البذار، وإنما في التربة. وهذا يعني أن المورسكيين من أصل وتربة فاسدة غير جيدة، لن تثمر إلا ثمرًا فاسدًا مهما زُرعت فيها من بذرة جيدة، وجُلب لها بذار ماهر. وهذا يعني بالمفهوم العلمي الحديث أن دينهم وعاداتهم موروث جيني، لا تُصلح البيئة من فساده، كما يزعم.
أرسل رسالة إلى الملك فيليب الثالث، عبَّر فيها عن مرارته بالفشل في هدايتهم، واقترح أن يتم إبعادًا تدريجيًّا لهم، كأحد المقترحات، لكنه أيضًا يرى من منطلق ديني أن الاختيارات لديه محدودة؛ لهذا فإن اقتراحه بالطرد التدريجي قد يقع على أناس صادقين في كاثوليكيتهم، لكن طرد جميع الجنس المورسكي أولى من بقاء الزنادقة بسبب اسم الله؛ فقال في رسالته: «إنني بفضل الله لست مجردًا من الرحمة، حتى لا تؤثر هذه الخطوة على روحي، فأنا أعتبر كثيرًا من هؤلاء رعيتي، لكن من الأفضل أن يذهبوا إلى الأعراف، على أن يسمح الكثير من الزنادقة بالبقاء باسم الله».
والأعراف لدى الكاثوليك تُسمى اليموس، وهو مَوطن الأرواح التي تُحرم من دخول الجنة لغير ذنب اقترفته، كأرواح الأطفال غير المعمدين، كما هو معتقد وقائم في النصرانية، لكن يبدو أنه مترددٌ كثيرًا في موضوع الطرد طمعًا في بقائهم حتى يصلح إيمانهم؛ فهي فرصة لتقربه إلى الرب، ثم عاد ليقول بأن الإجراء الأنسب هو هدايتهم من خلال التعليم. كما يبدو أن في داخله نظرة استعلائية على المورسكيين؛ فهو من عائلة أرستقراطية، ثرية، يراهم دونه بمراحل؛ ولهذا فلم يقف عند نظرته إليهم أنهم زنادقة مُراؤون، لكن يراهم وأطفالهم بدائيين وأشرارًا، لهم «أرواح قاسية». وذكر ذات مرة أن وعظهم يشبه زراعة بذور جيدة بين الصخور، أو إعطاء كتب مقدسه للكلاب، أو نثر اللآلئ أمام الخنازير. ويظهر أن ما بذله من جهد لهدايتهم مع نظرته الدونية لهم، مع عدم قناعته باستجابتهم، كان بدافع من عقله الباطن لإراحة ضميره أمام الرب، كما يؤمن، قبل اتخاذ قرار الطرد، وما يصاحبه من عمل غير إنساني كبير، أو ربما يكون مطمئن البال بعد أن يوصي ويدفع ويصر على الملك فيليب الثالث بأن يطردهم؛ لأنهم غير مؤهلين للنصرانية. ويتضح ذلك من رسالة كتبها للكهنة، حثهم فيها على مواصلة العمل قائلاً: «عليكم مواصلة العمل مع أولئك الذين يمقتوننا؛ لأن إخفاقنا سيجعل صاحب الجلالة يطهر الأندلس من الكفار». من هذا يظهر أنه أراد بما بذل من جهد كبير إراحة الضمير أمام الرب، والدفع بالملك إلى الطرد.
إنها مأساة أقلية، كانت أكثرية في بلادها ذات يوم، وعاملت تلك الأقلية آنذاك بكل احترام وتقدير، ولم تجبرها على ترك دينها.