د.عبدالله مناع
بداية اعتذر لـ(روح) الأديب والكاتب، الفنان، والروائي السوداني المبدع، الأستاذ (الطيب صالح) عن استخدامي لعنوان روايته الجميل: (موسم الهجرة).. عنوانًا لمقالي هذا.. لأن ذلك هو ما كان يحدث على أرض الواقع فعلاً عندما كانت القاهرة وبيروت تتوليان وحدهما إقامة معارض للكتاب العربي في ستينات القرن الماضي.. قبل أن تأخذ معارض الكتاب العربي في الانتشار عربيًا وخليجيًا: في الكويت وأبو ظبي والشارقة.. فـ(الرياض) فـ(جدة) أخيرًا؟!
***
في تلك الأيام الأولى من عمر معارض الكتاب العربي في دوله.. كانت (القاهرة) هي قلبه ومحجته، التي يهاجر إليها معظم المثقفين العرب من الأدباء والشعراء والروائيين والباحثين.. لحضوره، والمشاركة في (فعالياته)، وشراء ما يحتاجونه من كتب ومذكرات وروايات ودواوين ظهرت حديثًا.. ليجدوا في استقبالهم: رئيس الهيئة العامة للكتاب المصري.. الأستاذ الدكتور سمير سرحان - أستاذ آداب اللغة الإنجليزية في جامعتي القاهرة، والملك عبدالعزيز بجدة أخيرًا - بـ(ظرفه) و(خفة ظله) ومعلوماته عن المعرض، و(قفشاته) التي لا تنتهي عن (جمعية النميمة العربية)! التي ألفها وأنشأها وتولي «أمانتها العامة»! فقد كان معرض الكتاب العربي الدولي بـ(القاهرة) هو (الأول) بين معارض الكتاب العربي في عالمه لـ(مكانة) مصر، ودورها الحضاري والثقافي (المعلم)، وتصديرها لطلائع الأدباء والكتاب والمبدعين العرب من أمثال (شوقي) و(حافظ) و(طه حسين) و(توفيق الحكيم) والعقاد والمازني و(الرافعي).. إلى العالم، أما إضافة الأستاذ الدكتور سمير سرحان -رحمه الله- لإدارة هذا المعرض، وتولى كافة شؤونه.. فقد كانت إضافة لا يستغنى عنها، فقد جعل من (المعرض) خلال حياته.. قبلة للمثقفين العرب من كل مكان، فالذين عاشوا بعض تلك الأيام ما زالوا يتذكرون (أناقته) وفنيته في اختيار أولى أمسيات (المعرض) بـ(حفل) غنائي فني ساهر يقدم فيه فنانو مصر -وما أكثرهم وأعظمهم- أحدث ما أبدعوه موسيقيًا وغنائيًا.. ليتعرف المثقفون العرب على إبداعات الفنانين المصريين الموسيقية والغنائية، ليعقبها بـ(ندوة حوارية) سياسية من الدرجة الأولى بين: «الرئيس» وقد كان آنذاك «مبارك» وصفوة من المثقفين العرب عن (المستجدات السياسية في العالم العربي).
لقد كانت معارض كتاب القاهرة العربي في تلك السنوات زاخرة.. مفعمة، فقد قرأنا فيها أجمل المذكرات والكتب السياسية والدواوين الشعرية الجريئة كديوان (لا) للشاعر السياسي المبدع (نزار قباني)، وأجمل الروايات - كرواية (شرق المتوسط) للكاتب الرائع - بحق - الأستاذ عبد الرحمن منيف.. أو (موسم الهجرة) نفسها، أو الترجمة الفورية لأولى روايات الكاتبة الفرنسية الشابة آنذاك: «فرانسواز ساجان»: (صباح الخير إليها الأحزان)!
أما إذا حضر شاعر العامية المصري الأول: الأستاذ أحمد فؤاد نجم أو (الفاجومى) كما يناديه قراؤه وأصدقاؤه ومحبوه.. للمشاركة في إحدى الأمسيات الشعرية بـ(المعرض)، فإنه لا يشعل تلك الليلة وحدها بـ(شاعريته) وقفشاته و(هيلمانه) وطرائفه التي لا تنتهي.. ولكنه يشعل ليالي المعرض كلها، التي تمتد لـ(خمس عشرة ليلة)، فقد كانا نجمًا فريدًا في قوله وتعليقاته وقفشاته لا يجاريه أحد، ولا يساويه أحد...!!
***
وبعد...؟
فقد حملني على استرجاع كل ذلك الماضي البعيد أو الموغل في البعد على الأقل - هو تلك الأخبار البهيجة التي تواترت عن معرض القاهرة الدولي الأخير للكتاب في دورته الواحدة والخمسين، التي انتهت في الرابع من شهر فبراير الماضي، التي كان في مقدمتها انتقال (المعرض) من مقره القديم بمدينة (نصر) إلى مقر جديد بـ(المجمع الخامس) بـ(القاهرة) الجديدة، وكان ثاني تلك الأخبار: إن (المعرض) أقيم هذا العام برعاية الرئيس المصري (عبد الفتاح السيسي) ضمن احتفالية مصر بـ(رئاسة الاتحاد الإفريقي)، وتحت عنوان: (مصر وإفريقيا.. ثقافة التنوع)، وقد اختار (المعرض): «السنغال» لتكون (ضيف شرف) المعرض، والأستاذ الدكتور جمال حمدان - أستاذ علم الجغرافيا وصاحب كتاب «شخصية مصر» - ليكون لـ(شخصية) هذا العام.. لكن أجمل أخبار معرض هذا العام.. هي في عدد الفعاليات الثقافية والفنية التي استضافها في أكثر من ثمانمائة جناح، التي بلغت (3502) فعالية! وهو رقم يبدو «فلكيًا» لَا يُصدق.. إلا أنه ليس غريبًا على مصر وإمكاناتها الثقافية والفنية والموسيقية والتشكيلية، لكن المفاجأة الحقيقية على مستوى.. (دور النشر).. كان في ذلك الرواج الذي شهرته مبيعات سلسلة (المسرح العالمي).. حيث حققت المرتبة (الأعلى) بين مبيعات كتب المعرض.. لهذا العام.
لقد شكلت كل هذه الأخبار عن معرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته الـ(51).. مفاجأة سعيدة لـ(المثقفين المصريين) والمثقفين والعرب عمومًا، الذين كانوا يعتمدون على (مواسم الهجرة) لـ(القاهرة) وبيروت.. بحثًا عن (الكتاب)، سائلين المولى أن يعيد (بيروت) إلى سابق عهودها عندما كان المثقفون العرب يقولون عنها بـ(أن «مصر» تكتب، و«بيروت» تنشر و«العراق» يقرأ)!