محمد بن أحمد الصالح
في الوصية الواجبة تحقيق للمصالح ودفع للمفاسد وقد جاءت الشريعة الإسلامية بتحصيل المصالح وتكثيرها وتقليل المفاسد أو تعطيلها لما في ذلك من التراحم والتكافل والتعاون على البر والتقوى.
وقد جاء بيان معنى المصلحة في اللغة وفي الاصطلاح فالمصلحة كالمنفعة وزناً معنى، فهي مصدر بمعنى الصلاح، كالمنفعة بمعنى النفع، وجاء في لسان العرب: والمصلحة الصلاح، والمصلحة واحدة المصالح، فكل ما كان فيه نفع - سواء كان بالجلب والتحصيل كاستحصال الفوائد واللذائذ، أو بالدفع والأتقاء كاستبعاد المضار والآلام - فهو جدير بأن يسمى مصلحة.
ويمكن أن تعرف المصلحة بما يلي: المنفعة التي قصدها الشارع الحكيم لعباده بتطبيق الضروريات الست من حفظ دينهم، ونفوسهم وعقولهم ونسلهم وأموالهم وأعراضهم، طبق ترتيب معين فيما بينها.
والمنفعة هي اللذة أو ما كان وسيلة إليها، ودفع الألم أو ما كان وسيلة إليه، فقد جاء كتاب الله كاشفا لما فيه صالح الناس أجمعين.
وبناء على ما تتصف به المصلحة في الشريعة الإسلامية من الشمول وجلب الخير للأجيال فلا ريب أن العلماء ورثة الأنبياء، ولهذا يتعين على العلماء أن يعملوا على تحقيق مصالح الناس ودرء المفاسد عنهم والعمل على علاج مشكلاتهم، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} سورة آل عمران:187، وجاء في بعض الأحاديث التي منها: (الناس عيال الله فاحبهم إليه أنفعهم لعياله)، ومعنى يعولهم أي يحقق لهم أرزاقهم وما يحتاجون إليه في حياتهم، وقال عليه السلام: (من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم) وهذه الأحاديث وإن قيل فيها شيء من الضعف وللإمام السخاوي في كتاب المقاصد كلام جيد ص 324، وعليه فإن مسؤولية العلماء جلب الخير للناس ودفع الأذى عنهم، ولقد وقع الآن في الأمة ما ألحق بالكثير من الأذى، وذلك عندما يموت الأبن الأكبر والذي قد تكون له اليد الطولى في جمع الثروة المسجلة باسم والده، ثم يموت هذا الابن قبل أبيه وله ذرية، فبحكم قواعد المواريث أن أعمامهم يحجبونهم وقد قال الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} سورة البقرة:180، ولما نزلت آيات المواريث في سورة النساء قال المصطفى عليه الصلاة والسلام (إن الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث) نعم هذا حق، غير أن فريقاً من العلماء ومنهم ابن جرير الطبري وغيره كثير من مختلف القرون وهي رواية عن الإمام أحمد حيث قالوا إن الوصية نسخت في حق من يرث وبقيت الوصية واجبة في حق من لم يرث من الأقربين.
والقول بوجوب الوصية للأقربين غير الوارثين مروي عن جمع عظيم من فقهاء التابعين ومن بعدهم من أئمة الفقه والحديث، ومن هؤلاء: سعيد بن المسيب والحسن البصري، وطاووس والإمام أحمد وداود الظاهري، والطبري وإسحاق بن راهويه وابن حزم.
والقول بأعمال الآية في وجوب الوصية في حق من لم يرث، أولى من القول بنسخها.
ولقد كثرت الشكوى بحرمان أولاد المتوفى حيث صاروا للتهميش والتشرد، والضياع أو الانحراف حيث لم ينالهم شيء من التركة، فقرر العلماء في الأزهر أن جد هؤلاء إذا لم يعط أحفاده مثل نصيب أبيهم أو يوصي لهم به فهنا وجب تنفيذ الوصية الواجبة حيث ينال هؤلاء الأحفاد مقدار نصيب أبيهم بشرطين:
الشرط الأول: ألا يزيد النصيب عن الثلث.
الشرط الثاني: أن تقسم الوصية بين هؤلاء الاحفاء للذكر مثل حظ الأنثيين، وقد صدر في مصر نظام الوصية رقم 71، سنه 1946م 1366هـ، وطبق هذا النظام في السنة التالية وقد أخذ جملة من الدول العربية والإسلامية بهذا النظام.
والذي حدث الآن حصول أضرار بالغة بهؤلاء الأحفاد حيث يتعين إنقاذهم من الضياع والتشرد، وننتظر من هيئة كبار العلماء أن ينظروا بهذا الموضوع ولعلهم ينتهون إلى تطبيق هذا النظام.
ونرجو من المولى جل وعلا أن يلهمهم الصواب فيعملوا على إنقاذ هؤلاء الأحفاد من التشرد والضياع والفقر والفاقة بينما يرفل أعمامهم في بحبوحة من العيش والله ولي التوفيق.
** **
- الأستاذ بكلية الشريعة وعضو المجلس العلمي بجامعة الإمام سابقاً وعضو مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر والخبير بمجامع الفقه الإسلامية