د. خيرية السقاف
تلك البيوت كانت كبيرة, ليس باتساع مساحاتها,
ولا بكثرة حجراتها, ولا بتعدد طوابقها, ولا بسعة حديقتها,
ولا بعلو أسوارها..
ليس بفُرِشها وثيرة, ولا بلدونة وسائدها مريحة, ولا بموائد طعامها آهلة, ولا بتدفق سقياها
روية..
بل, كانت بأهلها القاطنين فيها, المعمّرين زواياها,
بامتدادهم يعيشون معاً, يولدون وينشأون جوار بعضهم,
تقلهم أرضها, وتتسع لكثرتهم حجراتها, وتلتم بقربهم جدرانها, وتعلو بقاماتهم سُقفها..
يكبر الأبناء فيها مع آبائهم, وأجدادهم, وإخوتهم, وأبنائهم..
طبق واحد تمتد إليه أصابعهم, قدح ماء يروي صغيرهم, وكبيرهم,
لحاف منسوج من كدح الأم, ومنسج الجدة, يدفئهم,
يفرحون لضحكة صغيرهم, ويألمون لوجع كبيرهم,
يتوكأون على بعضهم, ويتوسدون جوار بعضهم,
دافئة بهم الأسرَّة, كنفهم الذي لا يأوون إلا إليه, ولا يعملون إلا له, ولا يترحّلون عنه إلا معا, وإن انفرد راحل منهم فإلى دار لا يعود منها..
يألمون معاً, ويسعدون معا..
تلك البيوت نقضوها, وينقضون آثارها التي بقيت,
وقد تشتتوا وهم قربى, وتباعدوا وهم إخوة, وهُجِروا وهم آباء, وتفرَّقوا وهم أجداد..
غيَّرتهم ثقافة الاستقلال,
شتتهم البيوت المتباعدة, والأحياء المتناثرة, والعربات المتسارعة, والحياة المعاصرة!..
تغيَّرت رائحة بيوتهم, وتلوَّنت سحنات وجوههم, وخُفيت عن بعضهم أخبار بعضهم,
يعرفون بعضهم بلقطة مارقة في»سناب», وجملة خاطفة في»واتساب»,
وإن تزاوروا فنادرا,
وإن حدث فكل واحد في ركن, مشغولون بشاشات أجهزتهم النقَّالة بأيديهم!..
البيوت المعاصرة استوحشت بأفرادها, وضاقت بغربتها,
لم يعد أحدهم إلا هو الغارق في شؤونه الخاصة, والأمهات والآباء, والإخوة، والأخوات ضيوف حين يتزاورون, وغرباء لا يعرفون عن بعضهم إلا لماما,
أما صغارهم فغرباء عنهم, وعن بعضهم..
جيل ينشأ لا يدرك قيمة الترابط الأسري, ولا حقوق الأهل..
هذا هو حال البيوت في غربة ساكنيها, موحشة بشتاتهم!..
و.......
على الأهل, وأواصر القربى السلام!!..