د.فوزية أبو خالد
ارتفع حرارتي وأنا على سفر عكر صفوي لدرجة جعلتني أسارع على غير عادتي لعيادة الطبيب الذي رأى بدوره أن ذلك معدل عال على ما تم التعارف عليه طبياً بحمى الراشدين، إذ لا يعاني من مثل هذه الحرارة العالية وإن على فترات متقطعة إلا الأطفال والشعراء والمحاربون على حد قوله.
ولما كنت منهكة القوى بفعل الحرارة ولم يكن لدي ما اعتدته من قوة على الجدل وطرح الأسئلة، فقد اعتبرت ذلك التعليق نوعاً من الفراسة (الغربية) التي كانت من ضمن ما (استعاره الغرب) من ابن سينا وابن النفيس والبيروني وأضافوه لعلومهم؛ فاكتفيت بذكر ذلك بصوتي الملتهب ولكن بأقل حرقة ممكنة. فالطبيب البولندي على ما يبدو وإن كان لا يعرف أنني شاعرة فقد كان يستطيع أن يستنتج من غطاء الرأس وحدة الملامح والطبع، كما قال إنني أنتمي إلى واحد من ملكوت تلك الأرض في (الشرق الأوسط) التي تشب عليها ومن أجلها الحروب. أخذت الدواء ودفعت نفسي أمامي كما تجر أحصنة حانقة أطراف محارب أثخنته الطعون, فقد كان عليّ رغم حرارتي العالية أن ألحق على جناح السرعة بجناح طائرة تحملني إلى عاصمة الدنمارك. كانت رحلة عمل معدة من قبل عدة أسابيع في إطار عملي الاستشاري بالأمم المتحدة ولم يكن بوسعي الاعتذار عنها في اللحظة الأخيرة وإن أمضتني الحمى. إلا أنني شعرت بقسوة قراري صحياً على جماليته شعرياً حين خطوت خارج المطار الأنيق لكوبنهاجن لتلفحني تلك الرياح الثلجية القارسة والمنعشة للبلد الإسكندنافي.
كان من محاسن الصدف كما يقولون أن أجد بانتظاري مع فريق الاستقبال تلك الصحفية الدنماركية اليانعة لن فورسليف.. التي تعرفت عليها في الرياض يوم أجرت معي لقاء على صفحة كاملة لجريدة برلينك غازتاني من كبريات صحف الدنمارك (غير المتورطة في قضية الرسوم غير الشريفة عن أشرف الخلق سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم).. كانت رفقتها مع زمالات وفد المؤتمر خاصة كونها بنت البلد إضافة بالمعنى الثقافي والضيافي لرحلتي.
***
كانت المشاركات في برنامج المؤتمر المعني بأطروحة شراكات التمكين والإصلاح متنوعة ومتعددة. شاركت فيها مجموعة من الجالية العربية الدنمركية كما شارك فيها العديد من الشخصيات الثقافية والأكاديمية المستضافة خصيصاً للمشاركة في تبادل الرأي حول المشتركات الحضارية بين الشرق والغرب. وقد كان من اللافت للنظر كثافة حضور عدة أجيال من الشعب الدنماركي بشكل شخصي أو ممثلين لمختلف مؤسسات المجتمع المدني لهذا النشاط وخاصة فئة الشباب.
***
في اليوم التالي وقد بدأت تتراجع حرارتي وتعود لمعدلها الطبيعي استطعت أن أشارك مع الوفد في زيارة ثقافية الذهاب إلى مبنى قديم حديث للفنون والآداب وسط المدينة غير بعيد عن مبنى البرلمان الذي تعود عمارته للقرن الثامن عشر كان هناك معرض لمخترعات شبابية في إعادة استخدام المنتجات اليومية بأشكال جديدة. ومما لفت نظري فيها إعادة إنتاج بعض الأدوات الخاصة بحالات الإعاقة في ضوء تجارب المعاقين أنفسهم مع صعوبات استخدام الأدوات المساعدة ومع الأخذ في عين الاعتبار ببعض متطلباتهم لتعديلها لتصبح أكثر استجابة لمساعدتهم على قضاء شئونهم بالاعتماد على أنفسهم أو على الأقل بتمكينهم من الاعتماد على أنفسهم بقدر أقل من الحاجة للآخرين. ومن ذلك تصميم كرسي متحرك للأطفال ممن يعانون صعوبة في الحركة بحيث يمكن أن يتحول الكرسي إلى دراجة يلعب عليها الطفل ويمرن أطرافه خلال الجلوس عليه للتنقل من المدرسة وإليها أو سواها من التنقلات.
وفي نفسي المبنى كان هناك فقرات من البرنامج الثقافي الدنماركي المطعم بثقافة العالم العربي والإسلامي لمد جسور روحية خارج المدار السياسي تنصهر فيها العلاقة بين صقيع المنطقة الإسكندنافية وشموس الشرق الأوسط. فتجاور في ذلك المزيج الثقافي الشعر والنثر والموسيقى وأعمال إبداعية يدوية ومنسوجات لونية وخطية وفنون نحتية وتشكيلية ولم يكن ذلك لا بعيداً ولا نقيضاً لحوارات ساخنة عربية وعالمية كانت تدور حول الكيفيات لتجديد المشتركات الحضارية بين الشرق والغرب وعن إمكانية ذلك في ظل العلاقة المعقدة بخلفيتها الكولونية وامتداداتها القائمة إلى اليوم بين الشمال والجنوب بشكل عام.
وكما في مثل هذه اللقاءات العالمية فإن لقاءات الهامش قد لا تقل أهمية عن لقاء المتن بل قد تتفوق عليها لأنها تكون أكثر مباشرة وعفوية، كما أنها لا تكون فرصة للقاء بين المستضافين والشعب المضيف وحسب، بل وفرصة أيضاً للقاء بين الضيوف بعضهم البعض والاستماع لبعضهم البعض من العالم العربي ومن بقاع عالمية متعددة أخرى.
أما الجانب الأجمل في رحلتي لهذه المدينة التي يمكن تسميتها بمدينة الدراجات لاعتماد الكبير والصغير على الدرجات في مواصلتهم فهو حفاوة الصحفية الدنماركية لن فور سليف بي فقد استضافتني لاحقاً في مقر الصحيفة ثم في منزلها بضاحية نهرية بعيدا عن العاصمة وقامت بطهي طعام دنمركي بيتي شوربة البزيلا والبطاطس ولحم العجل ونوع دبسي من كيك الفودج, تناولته معها وأسرتها في مناخ عائلي دافئ، ولنطالع بعد العشاء أمام الموقد على ضوء خافت قراءات المستشرق الدنماركي باركلي رونكير في رحلته لقلب الجزيرة العربية قبل مئة عام. فكان الجانب الشخصي من الزيارة أبلغ تعبيراً عن ممكن العلاقات الإنسانية العفوية بين الغرب والشرق.