د.سالم الكتبي
لاشك أن حسن النوايا وترسيخ مبدأ التعاون والتفاهم المشترك تحقيقاً لمصالح جميع الأطراف في أزمة سد النهضة هي القاعدة التي تضمن التوصل إلى تسوية جادة تضمن حقوق جميع الأطراف، فلا شيء في عملية التفاوض السياسي يقول إن طرف ما يمكن أن يحصل على كل شيء أو أن هناك طرفاً لا يحصل على أيّ شيء مطلقاً.. فالتفاوض بجد ذاته نوع من تقاسم المصالح والأعباء والمسؤوليات، ويتطلب نجاحه مرونة فائقة وإدراكاً عميقاً من الأطراف كافة لأبعاد موضوع الأزمة من كافة جوانبها الإستراتيجية والسياسية والاقتصادية والأمنية والعسكرية وحتى الثقافية وغير ذلك.
ولذا فإن عدم مشاركة الوفد الإثيوبي في اجتماعات مفاوضات سد النهضة مع مصر والسودان في العاصمة الأمريكية مؤخراً ربما تمثل انتكاسة للتوقعات المتفائلة بإمكانية التوصل إلى صيغة حل وسط من خلال المسار التفاوضي الذي ترعاه الولايات المتحدة والبنك الدولي، ولكن تحليل الواقع يؤكد أن مسألة عدم حضور إثيوبيا ربما لا تعني فشلاً نهائياً للمفاوضات بقدر ما تعكس رغبة إثيوبية في ممارسة الحد الأقصى من الضغوط لنزع أكبر قدر من المكاسب والتنازلات من الطرفين الآخرين (مصر والسودان) ودفع الرعاة إلى ممارسة ضغوط عليهما لتقديم التنازلات التي ترضي الجانب الإثيوبي.
من الواضح أن ثمة عدم توافق ثلاثي حتى الآن حول بنود اتفاق ملء وتشغيل سد النهضة رغم الإعلان عن انتهاء المفاوضات بهذا الشأن والتوصل إلى اتفاق مبدئي خلال شهر يناير الماضي، والإعلان عن قرب توقيع اتفاق شامل كان متوقعاً في الاجتماع الأخير في الولايات المتحدة.
وزارة الخزانة الأمريكية كانت قد أعلنت أنها انتهت من إعداد مسودة اتفاق حول ملء بحيرة سد النهضة وإدارته وتشغيله وأرسلته للدول الثلاث، وقالت في بيان مشترك مع الدول الثلاث والبنك الدولي إنهم اتفقوا على ملء خزان سد النهضة على مراحل خلال الموسم المطير، على أن يأخذ ذلك في الحسبان التأثير على المخزون المائي لدى دول المصب وهي مصر والسودان. ومن المعروف أن الدور الأمريكي في هذه المفاوضات مهم للغاية كونه موضع اتفاق بين الدول الثلاث بعد أن تحفظت مصر على وساطات دول إفريقية أخرى دعت إليها إثيوبيا، حيث ينص اتفاق المبادئ المبرم في عام 2015 على إمكانية استعانة الأطراف الثلاثة «مجتمعين» بوساطة طرف رابع في حال الإخفاق في التوصل إلى حل لأيّ خلاف.
الواقع الآن يقول إن الموقف الإثيوبي الأخير بشأن مفاوضات واشنطن أثار القلق وتساؤلات المراقبين حول حقيقة توجهات أديس أبابا بشأن تسوية الأزمة، وهل هناك نوايا للماطلة والتسويف وكسب الوقت بالفعل حتى تبدأ عملية ملء السد كما هو متوقع في يوليو المقبل من دون التوصل إلى اتفاق، وبحيث يفرض الأمر الواقع نفسه وينتج ما تريد من تنازلات تخص برنامج ملء وتشغيل السد، أم أن هناك أسباب أخرى فنية أو سياسية قد حالت دون مشاركة الوفد الإثيوبي في الجولة التفاوضية الأخيرة في الولايات المتحدة؟.
والحقيقة، بعيداً عن الخوض في مدى صحة أيّ تكهنات أو تحليلات أو تفسيرات لما يحدث، أن بناء الثقة وترسيخ مبدأ حسن النوايا هو أهم جوانب المسار التفاوضي الذي يمر بمخاض عسير بالفعل، لذا فإن الجانب الإثيوبي يجب أن ينتبه إلى حساسية الموقف، لاسيما الشعبي، لدى الطرفين الآخرين في الأزمة (مصر والسودان) ويضع تعقيدات الموقف في اعتباره قبل اتخاذ القرار في هذا الشأن لأن ترك الأمور للشائعات والتقارير المغرضة قد ينتج ضغوطاً سياسية صعبة على شركاء التفاوض الآخرين.
المؤكد أن الحكومة الإثيوبية بقيادة رئيس الوزراء آبي أحمد، الحائز على جائزة نوبل للسلام، تدرك تماماً خطورة ترك للتكهنات بعيداً عن الوضوح والمكاشفة في أزمة مستعصية تعتبرها مصر والسودان مسألة أمن قومي، كما هو حال إثيوبيا بطبيعة الحال، والكل يعرف حجم حساسية الموضوع بالنسبة لمصر تحديداً باعتبارها الطرف الأكثر تضرراً في حال عدم الاتفاق على برنامج زمني تتفادى من خلاله شبح الجفاف والعطش خلال سنوات ملء السد وتشغيله في حال تم ذلك من دون اتفاق أو توافق.
ليس من الحكمة مطلقاً أن يتجاهل أيّ طرف من أطراف أزمة سد النهضة مصالح بقية الأطراف، أو أن يعمد إلى إجراءات تعسفية أو من طرف واحد اعتماداً على واقع جيوبولتيكي ما أو أوراق تفاوضية معينة.. فخلط الأوراق وارد بشدة في هذه الأزمة العميقة، وكل الاحتمالات تبقى واردة فيها ولو بنسب ضئيلة ومتفاوتة بطبيعة الحال، وخطورة وحساسية الموقف، رسمياً وشعبياً، يجعل من الصعب على أي متخصص أو مراقب القطع باستبعاد أي تطورات أو احتمالات سلبية قد تنزلق إليها الأمور -لا قدر الله- لذا فإن من الحكمة تفادي أيّ خطأ في الحسابات الإستراتيجية وتقديرات المواقف، وعدم المبالغة في ممارسة ضغوط غير محسوبة أو تقوم على رهانات معينة.. فالجغرافيا تبقى عنصراً حاكماً ومتغيراً رئيسياً في إدارة هذه الأزمة تحديداً، وعلى الجميع إدراك عواقب الفشل أو المماطلة، أو محاولة فرض الأمر الواقع.. فالبيئة السياسية لا تحتمل أي خطأ في التقديرات والحالة الشعبية في الدول الثلاث تزداد احتقاناً بفعل ممارسات التحريض الإعلامي التي تمارسها أطرافاً خارجية تسعى لإشعال حرب مياه بين دول وادي النيل.