د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** لا يكتم حبَّه وإعجابَه بشيخ الإسلام ابن تيمية 661- 728هـ مذ كان فتىً أعدَّ عنه بحثًا قصيرًا في منافسةٍ غير صفيةٍ بمركزٍ صيفيّ، وقوَّم الأبحاث الطلابيةَ المشاركةَ الشيخُ محمد العثيمين 1347- 1421هـ، وحصل صاحبكم على المركز الأول وجائزةٍ نقديةٍ قيمتها «خمسُ مئة ريال»، وما فتئَ يرى أنه قد ظُلم بإسكانه في فناء المدرسة السلفيةِ المتشددة، وهو أكبرُ من المستظلين بردائه، ولو أُعيدت قراءتُه لتنازعت العنايةَ به مدارسُ متعددةٌ؛ فهو فيلسوف ناوأ المنطقيين بدراية، وسبق «فرانسيس بيكون» 1561- 1626م في نقض المنطق «الأرسطي»، ومفكرٌ سبق التنويريين بأُفقه، ونحويٌ له استنتاجاته، ومؤرِّخ وفلكيٌ ورياضيٌ ومجتهدٌ متأنٍ في أدواته، واختلف مع الأشاعرة حول الصفات بعد أن قرأ مئة تفسيرٍ وروايةٍ عن الصحابة والتابعين فلم يجد فيهم مُؤولًا، وهو ذو رأيٍ وحكمةٍ وتسامحٍ وتصالح، وشدة في الحق ولينٍ مع الخصوم، ووعى من أرَّخ لسيرته أنه كان ذا خُلُقٍ راقٍ مع من أساؤوا إليه، ونُقل عن القاضي ابن مخلوف المالكي أنه قال: «ما رأيت أتقى من ابن تيمية فلم ندع ممكنًا للسعي فيه وحين قدر علينا عفا عنَّا»، والحديث عن هذا الشامخ لا يُختزلُ بمقالات، وبعضُ مرتدي عباءتِه من محبيه يسيئون إليه بابتسار شخصِه ونصِّه فيما يسندُ حِدَّته وضيقَهم.
** استأذن منه أحد تلاميذه لجمع اختياراته الفقهية فأبلغه أنه يجوز في الفروع تقليد عالمٍ مقلدٍ ما لم يُتثبتْ من خطئه فأصّل لمشروعية الاختلاف وعدم جواز قسر الناس على فتوى أحاديةٍ ما لم تُمسَّ أصولُ العقيدة، ولو وسِعَنا ما وسعه لوفرنا كثيرًا من الشقاق بين أبناء الأمة بل بين أبناء الوطن الواحد والمذهب المتحد.
** أنكر شيخُ الإسلام على من ينعى على المسلمين ذنوبَهم وهو لا ينعى على غيرهم كفرَهم، بل ربما مدحهم وعظَّمهم، ومثل أولاء كما وصفهم من أعظم الناس جهلًا وظلمًا، وهذه مبادئُ حاسمةٌ في اتقاء الفرقة وتجسير المسافة والعناية بالأولويات (للدكتور عبدالله الدميجي كتيبٌ لطيفٌ حول «عناصر القوة في حياة الشيخ ومنهجه في التأليف»- دار طيبة الخضراء 1439هـ) ولعلَّ قارئَه يجد فيه ما يستخلص منه مبادئَ لفقه الاختلاف تكفينا حوار الصُّم الذي يُرمسُ فيُعاد بعثُه.
** الجيل الشاب بحاجة إلى نماذجَ مضيئةٍ تجيبُ عن استفهامات أذهانهم وتمحو التناقض عن واقعهم وتقدِّم لهم الدين بمنأىً عن صراع المؤدلجين والملجلجين المملوء برغبة التشفي؛ سواءٌ أتصدروا أم تستروا، وفيهم من يودُّ إشعال الهشيم ليدرأ سوأته أو يبرر إساءته، ولن تبقيَ النارُ لو أُضرمت -كفانا الله شرَّها- مكانًا لملتجئٍ أو مختبئ.
** في فتاوى شيخ الإسلام رحمه الله قولُه: «من تعصب لأهل بلدته أو مذهبه أو طريقته أو قرابته أو لأصدقائه دون غيرهم كانت فيه شعبةٌ من الجاهلية...» الدميجي ص 88، وهذه لافتةٌ تستحقُّ أن تُعلّق في كل قلبٍ وعقلٍ ومركزِ حوار.
** التراث يتجدَّد.