د. إبراهيم بن محمد الشتوي
فإذا علمنا أن النغم أو الإيقاع نفسه ذوق، وأن ذوق كل شخص يختلف عن الآخر (طبعاً هذا أمر نسبي وليس على إطلاقه) أدركنا أن ما نظنه غير مقبول لدى شخص قد يكون مقبولاً لدى آخر خاصة إذا ضممنا إلى ذلك أن الذوق نفسه متغير، وأن قراءة البيت وتلحينه تغير في نمط نظام الحركات والسكنات فيه، وهذا ما يسميه العروضيون واللغويون أيضاً بالإشباع، وهو زيادة مد إلى الحركة القصيرة بتحويلها إلى طويلة، أو الوقف والابتداء في منتصف التفعيلة، ما يمثِّل زيادة سكون في البيت.
ويزيد تعقيد هذه المشكلة عندما نبحث عن أصغر وحدة إيقاعية في هذه النظرية، ويبدو أنها «السبب» سواء كان ثقيلاً أو خفيفاً، وهو الذي يتكون من حرفين، غير أننا لا نلبث أن نكتشف أنه وإن كان أصغر وحدة إيقاعية مصنفة، فإنه لا يلبث أن يزداد صغراً عند دخول العلل والزحافات عليه فيحذف نصفه، وهنا يصبح على الحقيقة أصغر وحدة إيقاعية هو الحرف الواحد، فالحرف الواحد عند الخليل بن أحمد وحدة إيقاعية.
وهذا التحديد للوحدة الإيقاعية غير دقيق، ففي الوقت الذي يوقع فيه على مواقع التفعيلة الزحافات والعلل، فيقول: الثاني، الرابع، الخامس، السابع بوصفها وحدة واحدة، ما يجعل التفعيلة هي الوحدة الإيقاعية، نراه في الدوائر العروضية يعتمد على الأسباب في تكوين التفعيلة ومن ثم تحديد البحر معرضاً عن وحدة التفعيلة وما تفرضه من نظام بين أجزائها، فيأتي بحر المديد بعد تجاوز الوتد الأول من تفعيلة بحر الطويل.
وقد لا يكون لهذا الأمر أهمية ما دامت التفعيلة المستنبطة من الدائرة كاملة ومستقلة بمعزل عن التفعيلة الأصلية وإن كانت على غرارها، ووجود هذه التفعيلة قائم بمعزل عن الدائرة لولا أن القدماء اعتمدوا هذا المنهج لاستنباط البحور المهملة التي ليس لها وجود إلا من خلال الدوائر العروضية التي تقوم على وحدة السبب وليس التفعيلة، إضافة إلى أن الوعي بأن الفارق بين التفعيلات هو بتبديل ترتيب الأسباب والأوتاد يؤكد القول بأن الوحدة الإيقاعية هي السبب وليست التفعيلة، والذي يؤكد أن السبب هو الوحدة الإيقاعية الصغرى أننا نرى تفعيلة «فعولن» تتحول إلى «فع» حين يصيبها البتر، وهذا يعني أن الحرفين أصغر وحدة إيقاعية سواء كان تفعيلة أو سبباً.
ولا نستطيع أن نجزم بالمكونات الأصلية التي اعتمد عليها الخليل في تمييز البحور، أهي القراءة والتنغيم، أم التفعيلات بنظام الأسباب والأوتاد، (والفرق بينهما أن التفعيلات ثابتة في حين أن القراءة ليست ثابتة) بيد أننا ندرك أن هناك تداخلاً في هذين المنهجين، فالرجز يتداخل مع الكامل حين يصيب الكامل الإضمار (وهو تسكين الثاني المتحرك) في تفعيلاته كلها، وتصبح تفعيلته (متفاعلن) (مستفعلن) ومجزوء الكامل يتداخل مع مجزوء الوافر إذا أصاب الكامل الوقص (وهو حذف الثاني المتحرك)، وأصاب الوافر العقل (وهو حذف الخامس المتحرك)، وحالات التداخل كثيرة لا نريد أن نقف عندها. لكننا نسأل هنا لماذا لم يعتمد الخليل الزحافات والعلل لتكوين بحور جديدة، فيجعل كل اختلاف في ترتيب الإيقاعات (الأوتاد والأسباب) بحراً مستقلاً عوضاً عن هذا التصنيف المقسم بالأضرب ثم الخروج عليه في نظام الزحافات إذا كانت البحور نفسها في تصنيفها الأعلى تتداخل؟.
ويقلل بعض الدارسين من قيمة هذا التداخل باعتباره زحافاً لا يلتزمه الشاعر، فقد يأتي به مرة ويعود عنه في الأخرى، بيد أنني هنا أتحدث عن قبول الذوق للنغم «المحدث» من خلال الزحافات والعلل التي تصيب الإيقاع، أو التغيير الذي أصاب خطاطة الإيقاع الأصلية باعتباره هو (الذوق) المقياس أصلاً في صحة الإيقاع.
في حين أن القراءة والتنغيم قد تتغير من خلال ما يسميه اللغويون بالإشباع، وهو تحويل المدة القصيرة إلى طويلة، أو من خلال التسهيل، وهو تحويل الهمز إلى مد، أو من خلال النبر ومد المقصور وهو همز ما لا يهمز عادة، وهي ظواهر محدودة لكنها تغير في نمط القراءة، وتفتح المجال واسعاً لتأثيره في بناء الإيقاع، واعتباره أصلاً يعتمد عليه في نظامه، وقد اعتمدها الخليل في بناء نظامه الإيقاعي لكن بوصفها أدوات مساندة للنظام الأصلي، بمعنى أنه لا يصار إليها ابتداء فتعد من الإمكانيات التي تؤخذ بالاعتبار عند تحديد إيقاع البيت، وإنما عند الشعور بقصور الأصوات الثابتة نوعاً من التعويض.
ولا نستطيع أن نغفل أثر القراءة الحاسم في تحديد الوزن، فالأوزان انعكاس لقراءة البيت، وقراءة البيت لا تعدو أن تكون نوعاً مما يسميه النحويون ب»التوجيه»، توجيه الجملة في تركيبها إلى صورة من الصور النحوية المعروفة ليستقيم المعنى، وهذه هي قراءة الأشعار، فهي نوع من توجيه «البيت» نحو أحد الإيقاعات المعروفة سلفاً لدى القارئ ليستقيم له الإيقاع، فإذا لم يكن معروفاً سلفاً لديه فإنه يحكم بخطئه، وعليه فإن الإيقاع يختلف باختلاف التوجيه، وهذا يعني أنه لا يعول على ما يجده الإنسان من موافقة في قراءة البيت لهذه القواعد (التفعيلات والزحافات، والأوتاد والأسباب) خاصة وأنها لا تأتي بصورة دقيقة إلا بعد ما يسمى بالكتابة العروضية التي تقوم على إبانة بعض الأصوات، وإلغاء أخرى حتى يستقيم حالها، ولو وقفنا عند ظاهرة «الوقف» الصوتية كما هي مثلاً في القرآن الكريم، ويسميها بعض النقاد المعاصرين بـ»بالحبسة» لوجدنا أن الكسر يمكن أن يكون نمطاً إيقاعياً مستقلاً جديداً.