د. سلطان سعد القحطاني
التجربة القصصية:
تعتبر تجربة الجيل الأول من الأدباء والصحفيين، من السعوديين والوافدين، ومَن ساندهم في بداية النهضة العلمية والفنية، نقطة الضوء التي أنارت الطريق لإكمال المسيرة لمن عاصرهم أو جاء بعدهم من أرباب القلم والمفكرين والعلماء لبناء نهضة أدبية حديثة. وعندما نقول (أدب الرواية والقصة) فذلك يعني أن الرواية لم يتبلور مفهومها كفن له مقوماته، وأن هناك قواسم مشتركة بين الفنين، حتى أطَّرت لها بعض الدراسات الفنية الحديثة. وقد تحدثنا في المحور الأول من هذا الفصل عن دور الصحافة والوافدين من العرب وغيرهم لطلب العلم الشرعي في أرض الحرمين الشريفين، ودور بعض الأدباء المهتمين بهذا الشأن، ممن تعلموا في العهد السابق للدولة السعودية، التي كان من أولوياتها بناء التعليم والثقافة؛ لإيمان قادتها بأهمية العلم بفروعه، القديم منها والجديد في العالم، واستفادة أبنائها من كل ذي علم ومعرفة؛ فقد قدم إليها عدد لا بأس به من طلاب العلم، كانت لهم مشاركات لا يغفلها التاريخ، كما أشرنا إلى ذلك فيما سبق. ومن الجدير بالذكر أن الفنون الحديثة أخذت في الظهور في ذلك الوقت، في مصر وبلاد الشام، كما هو معلوم لدى الباحثين والمهتمين بالشأن الثقافي. ومن هذا المنطلق تأثر بها الأدباء في منطقة الحجاز التي كانت محط أنظار الجميع منذ القرون الأولى، ولشعور أبنائها الذين يمتلكون الصحافة والتعليم الحديث بهذه الأهمية، وإن كان في مراحله الأولى من عمر النهضة؛ كي يكون لهم دور ملموس في هذه النهضة. وبالطبع كانت الصحافة كما أشرنا لذلك هي المسؤولة عن نشر هذا الجزء من الأدب الحديث، لسهولة الحصول عليها، وسهولة مادتها. ولن أتعرض في هذا البحث المقتضب لكل ما كتب من مقالات حول هذا الموضوع، الذي أشبع بحثاً من عدد من الباحثين في القصة القصيرة، مثل الدكتور سحمي ماجد الهاجري(12) الذي قدم رسالة الماجستير عن القصة القصيرة في المملكة العربية السعودية في مراحلها الأولى، وتعتبر رسالته للماجستير في هذا المجال الرسالة المنشورة، وإن كان قبل ذلك بعض المحاولات في هذا المجال لم يكتب لها النجاح. ولا نزال في هذا المحور نذكر الأولويات، منها رسالة الدكتوراه عن الرواية في المملكة العربية السعودية، نشأتها وتطورها، لكاتب هذا البحث، وما تلاها من رسائل علمية في المجال نفسه، أشبعها الباحثون من بعده درساً وتحليلاً(13) ومراجع ومصادر.
بعد هذه المقدمة التي لا بد منها سنتعرض للرواية في بدايتها، لكن للمعلومية سنجد أن ما سنبدأ به ليس دقيق المعايير التي طبقناها في دراستنا على الرواية، لكننا كنا مضطرين لنقطة البداية، وهي في البحوث العلمية من الأهمية بمكان؛ فنجد أن العالم والمفكر الكبير عبد القدوس الأنصاري، الذي أشرت إليه فيما سبق، كان السبّاق في هذا المجال في طرحه لمشكلة كانت تشغل بال كل مواطن مثقف في الجزيرة العربية، مما سار عليه العرف الذهني في المجتمع الحجازي بالدرجة الأولى، حول مفهوم الخلافة. وقد أشرت إلى ذلك في مقدمات ما ظهر من فن جديد حول الصحافة، ومفهوم الخلافة في الذاكرة الشعبية، وإن كان المصطلح لا ينطبق على الخلافة الإسلامية بدقة؛ لذلك انقسم المجتمع إلى قسمين رئيسيين، وثالث في الوسط، ومن هذا الشعور فكر عبد القدوس في صياغة لهذه المشكلة في أبٍ طاعنٍ في السن، رزق بتوأم من الأولاد (تَوأمان) أي رزق بولدين. ومن العلوم أن كلمة (توأم) تعني اثنين في وضعٍ واحد، لكن الأنصاري أثبت بالدليل العلمي جواز ما ذكره لغوياً(14)، وفكرة هذه الرواية (وإن لم تكن بمعنى الرواية الحقيقي، لكن شفع لها السبق لتكون منطلقاً لدراسة الرواية)، فبعد الحرب العالمية الأولى اختلت الموازين وانقسم المثقفون إلى قسمين، قسم يريد الخلافة العثمانية، وقسم ضدها، ولكل منهما رأيه، كما ذكرنا سابقاً. ومن هذه الإشكالية كتب عبد القدوس روايته المذكورة، وشخّصها في رجل كبير السن، رزق بولدين، أحدهما متدين وأخلاقه إسلامية، والآخر متحرر أخلاقه غربية، وطرح فيها رأيه، أو رأي المجتمع في ذلك الوقت، كما أشرت من قبل(15)، فلم تكن الرواية قد عرفت بمعناها الحقيقي، فهناك من سماها رواية، استناداً إلى الفعل (روى)، ومنهم من سماها قصة، استناداً إلى الفعل (قصَّ)، وهذا موروث لغوي ورد في القرآن، وهناك سورة بهذا المسمى (القَصص)، لكن الوضع الحديث يختلف تماماً، ولم تسلم هذه الأعمال من النقد غير الموضوعي، من بعض الكتّاب والصحفيين، مثل محمد حسن عواد الذي تعدى اللياقة في النقد، واستعمله بمعناه السلبي القديم(16) حول رواية عبد القدوس الأنصاري سالفة الذكر. وإذا أردنا تلمُّس الأعذار لكليهما فسنجد العذر مشتركاً بينهما (فن جديد، ونقد قديم)، وقد تفهماه فيما بعد.
كانت الفترة التي مرَّ بها العالم من خلال الحرب العالمية الثانية فترة جفاف في كل شيء، مادياً ونفسياً، فلم يكن الإنتاج الأدبي مشجعاً، من ناحية، ولا وسائله متوافرةً من ناحية أخرى، فلا طباعة ولا ورق ولا مادة، حتى المعيشة كانت شحيحة، حسب ما روى لنا بعض معاصريها، ومنهم العالم الأديب محمد حسين زيدان في إحدى محاضرته عن تاريخ المدينة المنورة، وهو ابنها، حيث يذكر أن الحصار قد قضى على الأخضر واليابس، حتى وصل إلى معيشة الموطن.
وما إن انفرجت تلك الأزمات، وتنفس الناس الصعداء، وعادت الحياة بكل مقوماتها المتاحة، حتى عاد الفن والأدب إلى مجاريه السابقة مع وجود بعض المثقفين والوافدين للدراسة، ثم المشاركة في الحياة الأدبية الثقافية بصفة عامة، وقد أشرت إلى بعض منهم في هذه الدراسة ودراسات سابقة حول هذا الموضوع؛ وهو ما جعل الحياة الثقافية تنتعش، والتعليم الحديث في بداياته، فصدر الكتاب الأدبي الثقافي النادر في ذلك الوقت للأديب/ محمد حسن عواد(17) أحد مدرسي مدرسة الفلاح في جدة. وقد أثار هذا الكتاب ضجة في الأوساط العلمية والشعبية، جعل المتلقي يعيد النظر في كثير من شؤون حياته؛ وهو ما حدا بالجهات المعنية لإيقافه، ومعاقبة مؤلفه؛ لأنه أتى بفكر جديد لم يُعرف من قبل في الثقافة التقليدية. هذا هو الملمح الأول الذي تظهر فيه بعض الملامح الوطنية، لكنها لم تكن الهوية التي تمثل المجتمع، كما تمثله الرواية في تفاصيلها وشخوصها المجسدة للحياة والناس، في سرد نثري يعطي الخطوط العريضة لموضوع ما. ولعلنا نوضح أكثر في هذا المجال من خلال النصوص التي سنوردها، ونشير إلى كتّابها، الذين اقتربوا من تصوير حقيقة المجتمع.