تمثّل وسائل التواصل هذه الآونة حقلاً مكتظًا بصور خطاب الأزمة؛ بكل خيلها ورجلها ورهبتها وتوقعاتها..وسخريتها أيضًا. والأزمة، بالطبع، ناشئة عن أصداء التوتر العالمي الذي أحدثه فيروس «كورونا المتجدد»، ولعلنا جميعًا نلمس هذه الحقيقة منذ لحظات يومنا الأولى عبر الفيض الرقمي من الرسائل والتغريدات والأخبار والمقاطع التي تبقي الإنسان على متابعة دقيقة لتطور آثار الفيروس، وانتشاره عالميًا ومحليًّا، وسبل مكافحته بين العلاج الطبي والبديل وأدعية التحصين والوقاية، هذا غير التجليات التي تتجاوز حقيقة وجود ذلك الكائن المجهري، الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، إلى البحث عن أسباب ظهوره بين تبني نظرية المؤامرة داخل لوبيات شركات الأدوية، ورفضها. وسط كل هذه التناوبات التحليلية لفتني تداول البعض رسالة تحوي ماورد في مقدمة ابن خلدون من قوله: «إذا رأيت الناس تُكثر الكلام المضحك وقت الكوارث فاعلم أن الفقر قد أقبع عليهم، وهم قومُ بهم غفلة واستعباد ومهانة كمَن يُساقُ إلى الموت وهو مخمور»؛ وذلك ردًا على بعض التعليقات والأشعار والنُكت والمقاطع التي تتناول الأزمة بروح ساخرة، ودعابة طريفة، فكأن مَن تداولوا قول ابن خلدون يستنكرون على أصحاب النمط الساخر توجههم هذا، ويرونه خروجًا على ما يستوجبه الوضع المتأزم من إعداد عدة تتمثل بنظرهم في الجدية التامة، وأخذ الحيطة والحذر، والبعد عن أي تحوير لهذا المسار الذي اختطوه لأنفسهم، ويرون فرضه نمطًا اجتماعيًا عامًا للتعامل مع الأزمة. والواقع أن هذا لا يتواءم مع طبيعة النفس الإنسانية السويّة التي تدرك، وتهتم، وتعمل، وترى في ذات الوقت ألا ضرر في بعض السخرية، فلا يكون هذا بأفق اللا مبالاة، أو الاعتقاد بقول العامّة: «دخّن عليها تنجلي عنك الهموم»؛ بل من باب التجاوب مع ذلك الشقي الضحوك الذي لا بد من وجوده داخل كل شخص؛ وإن أضاع البعض ملامحه ومفاتيحه. والسخرية الأزماتية ليست بدعًا في هذه الأزمة على أي حال؛ فالأدب الساخر لون من الأساليب الفنية الشعبية التي تستثمر الطرفة والضحك في العملية النقدية، وهو يقوم على معيارية مفارقاتية تقدم النقد الموجع واللاذع في قالب فكاهي؛ مما يشكّل أرضية لمحاولة تغيير وضع خاطئ في السياق السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي، أو خلخلته على الأقل تمهيدًا لإزالته، وتحريض المتلقي على التفاعل معه؛ بل تشكيل قاعدة جماهيرية عريضة لمن ينتهجه لونًا تشخيصيًا وإبدايًا.
والواقع أن اختلاف منهجية المبدع الحياتية، وتمايز زاوية نظرته الفنية هي التي تحكم توجهه الإبداعي بين تبني النمط الجاد أو الفكِه، لكن يبقى المنطلق الذي لا بد أن ينزع عنه هو وجود رسالة محددة يريد المبدع إيصالها لمتلقٍ فرد، أو مجتمعٍ كامل، فإن عُدمت الرسالة تحولت السخرية إلى نوع من الابتذال الضاحك دون هدف أو اعتقاد.
وتنتج أهمية السخرية في الأساس عن كونها وسيلة دفاعية تجعل البشر يحاربون اليأس بالدعابة، ويواجهون خطر النهايات بأسلوب تهكمي، على أن الفكاهة الساخرة تتجاوز ذلك إلى كونها استراتيجية فاعلة في أزمنة الأزمات الصاخبة؛ فتتضافر مع بقية الاستراتيجيات في منظومة متكاملة تستهدف إدارة الأزمة والوصول إلى منطقة خضراء آمنة بأقل عدد من الخسائر؛ ولذلك فإن السخرية الأدبية تتطلب عدة إبداعية ممارساتية تجمع بين سعة الأفق، وشمولية الثقافة، وحضور البديهة؛ إضافة إلى قصدية الفحوى، سرديًا كان أو شعريًا أو كاريكاتيريًا أو مصوّرًا، وإدراك أبعاده وأهدافه للوصول بالنكتة المتضمنة إلى هدفها التأثيري المنشود بأقصر طريق ممكن، كما أن احتواء العملية الإبداعية على اشتراط التوازن والاعتدال بين جانبي الجد والهزل يكفل للسخرية أن تؤدي دورها الأزماتي بكفاءة، فتتحاشى البرود الذي قد يشعر به المتلقي عند اعتماد ردات الفعل الإبداعية للأزمة على جانب السخرية المطلق، فتصبح مفرغة من محتواها غير ذات فعل أو تأثير أو هي كما يقول الجاحظ: «ونحن نعوذ بالله أن نجعل المزح في الجملة كالجد في الجملة، بل نزعم أن بعض المزاح خير من بعض الجد وعامة الجد خير من عامة المزح».
أخيرًا؛ فقد قرأت في ذات الصباح، إضافة إلى الرسالة التي حوت تنظير ابن خلدون، بيتًا شعريًا انتشر في وسائل التواصل لشاعر كان يعشق لحن عطسة محبوبته -ويالغرابة العشق- فأصبح بعد الفيروس ينتابه الفزع أن عطسَتْ، ولا أنكر أنني خرجت بامتنان لذلك الشاعر اللطيف، ففي خِضم الأخبار السيئة أوصل لي نبض الشارع البسيط، وشكّل ببيته اليتيم عنصر تفاؤل بأن الفيروس ظُلّة شتاء ثقيلة، سرعان ما تذوب تحت وهج ظهيرة الصيف.
** **
أ.د. هيلة عبدالله العسّاف - أستاذ الأدب والنقد الحديث - جامعة الأميرة نورة بنت عبدالرحمن