لم تشفع أواصر المعرفة ووشائج القربى بين الأسرتين، وبريق الاسم وعطر السمعة، التي حظي بها الدكتور عبد الرحمن الصالح الشبيلي -رحمه الله، في أن أبادر بفتح باب العلاقة معه، فأتطلب صحبة، أو أتكلف لقاء، دون مناسبة سانحة، أو حاجة داعية، فقد عهدت نفسي متحاشيًا أن أثقل على أحد، متحسِّسًا من ذلك كثيرًا، وكنت أكتفي إذا التقيت به في مناسبة من المناسبات، بسلام مفعم بعبارات الاحتفاء،
بقدر ما يسعفني به معجم الحال والمقال، مع نظرة المودة والإعجاب، التي تملأ ناظريّ، وكنت أحدث والدتي - رحمها الله - عمن ألتقيه ممن تعرفهم، فما إن تسمع اسمه، حتى تحدثني عن والده صالح العبد الله الشبلي -رحمه الله، وعن شعره في زوجته الأولى التي توفيت في وقت مبكر فرثاها رثاءً حارًّا، وبقصة زواجه الثاني وما اكتنفها من أحداث، وقد أرسلتني مرة إلى إحدى القريبات لاستعارة شريط (كاسيت) فيه قصائد بصوته.
وفي مهرجانات عنيزة للثقافة والتراث كان د. عبد الرحمن - رحمه الله - حاضرًا فاعلاً، فحضوره إضافة، ومشاركته إضافة أخرى، وطالما تفضل على المهرجان ومنتديه بتوزيع بعض كتبه، وهو وإن كان الإهداء عادتَه، وليس شيئًا مستغربًا، إلا أنه قد لفت نظري أن وزع كتابه (عنيزة وأهلها في تراث حمد الجاسر) بيده، يدور في القاعة بكامل أناقته، وجميل بشاشته، يقصد من يتوسم فيه اهتمامًا فيهديه، لم يستعن في ذلك بمعاون، أو يؤجله لوقت آخر، أو يرسل به رسولاً.
وفي مهرجان بعده، التقيت به، فبادَرَت ابتسامتُه كلماتِه، وسبق احتفاءَه تهللُ وجهه، وانبساطُ أساريره، مما يرسل إشارات الود، وعلائم الارتياح، ثم تبادلنا الرغبة في اللقاء، وكان جدوله لا يسمح بالاتفاق على موعد خاص يشرفني فيه، غير أنه لم يعتذر، وعرض أن نلتقي من الغد صباحًا عند العم مساعد الخالد السليم - رحمه الله، وكان يجلس صباح كل يوم، ويرد مجلسه جمع من الفضلاء، فاقترح أبو طلال أن آتي مبكِّرًا حتى يطول اللقاء، وتسنح الفرصة بحديث خاص، قبل اكتظاظ المجلس، فاتفقنا على ذلك، ومن حرصه على هذا اللقاء، أن أخبر العم مساعد بما اتفقنا عليه، فاتصل العمُّ بي مؤكِّدًا الموعد، ومحرِّصًا على التبكير، وهل لي بعد هذا أن أتأخر، وقد اجتمع لي كل هذا الفضل من أهل الفضل!
كان اللقاءَ الأول، إلا أنه في حميميته وفائدته، كأنه لقاء صحبة ومعرفة طويلة.
في ذلك المجلس جرى الحديث بيني وبينه عن أحاديث الناس وتحليلاتهم للأمور العامة، والأحداث الكبرى، وما يجري في أثناء ذلك من تكهنات وادعاءات، من فئة من الناس، لا تستبين الأمور، ولا يعنيها صحة النقل وصدق الناقل، وأثر الخبر، وإنما هم عُمَّار مجالس، يمضون فيها وقتهم، تأخذهم العاطفة، ويجللهم الجهل، وتغرُّهم السذاجة، حتى إذا اتخذت وزارة الداخلية الإجراءات الصارمة في شأن الفئة الضالة، وما جرَّته على البلاد من أحداث، تناولوها ببداءة رأي، كما يتناولون أدنى أمور حياتهم، وأخذوا يؤولون ويعذِّرون، ولو علموا بالخفايا لسكتوا، فقال أبو طلال: أتعرف فلانًا؟ أسمعت اسمه من قبل؟ قلت: نعم، وذكرت ما سمعت، مما ينقله من لا يعلمون، كما لو كانوا يعلمون، جزمًا وقطعًا، فابتسم وقال: بل هذا خبره، فقصه عليَّ، بتفاصيله الدقيقة، مما وقف عليه بنفسه مع أصحاب الشأن، وبما آل إليه أمره، مما يُشرِّقُ فيه الناس ويغرِّبون!
كان حواره ثريًّا، مجللاً بالأدب والعذوبة، وكانت كفه نديًّة، فلم أغادر المجلس إلا بمجموعة من مؤلفاته، مزينة بإهداء أشرفه به.
ليت الزمن يعود القهقرى حتى أطرق باب العلاقة، وأفتح ديوان الصداقة، فحتمًا سأدخل جنته... فأمامي العذوبة والأخلاق، والعلم والرأي والحصافة.. ليت وهل تنفع شيئًا ليتُ!
ولما صدرت موافقة وزارة التعليم على إقامة مؤتمر الشيخ عبد الرحمن السعدي آثاره العلمية والدعوية، في جامعة القصيم كان - رحمه الله - من أوائل المستكتَبِين، ليس باقتراح مني، وإنما بتوصيةٍ مجمعٍ عليها في اللجنة العلمية للمؤتمر، وقد توليتُ التنسيق معه في هذا الشأن، ورأيت صورًا أخرى مشرقة من أخلاقه، وتواضعه، وحسن تعامله.
لم يكن مترددًا، ولا مختفيًا وراء الحُجَّاب، ولا متأخرًا عن إرسال ما يطلب منه، ولا متكبرًا عن قبول الملحوظات، أو مترفعًا عن تعديل ما يلزم تعديله، أرسل رسالة بعد إرساله مشاركته: «ستلاحظون أن مُسوَّدة المشاركة ربما لا تتحقق فيها المعايير العلمية للندوة، ولذا قد ترون تقريرها للنشر فقط من قِبَلي» ثم أرسل رسالة أخرى بعد أن أرسل تعديلات على مشاركته: «أخي د. فريد،، السلام عليكم ورحمة الله،، بعثت إليكم اليوم مسودة ثانية مزيدة ومنقحة، وأشعر أنها مشاركة انطباعية، لا تتوافر فيها المعايير العلمية للبحوث، وإنما قصدت بها التعليق في المحور ا لأقرب لها»ـ
في حين أن بعضهم يأنف من طلب تعديل، ويغضب من تأخر رد، ويعاتب على خطأ لم يقصد، ويرى أنه الجاحظ بيانًا، والشيرازي حجة وبرهانًا، فسبحان من أعطى ومنع.
وقد رأت اللجنة العلمية اختيار د. عبد الرحمن لإلقاء كلمة المشاركين، فأبلغتُه بذلك ووافق، وكان المقرر أن يعقد المؤتمر في العشرين من رجب عام 1440هـ، إلا أنه أُجل إلى 23 من ربيع الأول عام 1441هـ، فكان قدر الله أسبق، فقد انتقل صاحب المشاركة، والكلمة الضافية، إلى جوار ربه في السابع والعشرين من ذي القعدة عام 1440هـ، رحمه الله وغفر له.
** **
أ.د. فريد بن عبد العزيز الزامل السليم - أستاذ النحو والصرف - جامعة القصيم