د. عبدالله بن ثاني
سيدي الأمير محمد بن سلمان... يا أيها التاريخ الذي يتنفس..
لقد كان الله أدرى حينما أسند أمر عباده إلى من ارتضى من خيارهم فكان مولاي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان حفظه الله، الذي أوتي من بعد النظر وثاقب الرأي ما جعله أن يكون معقد الأمل وبيت الرجاء للأمتين العربية والإسلامية وشرفاء العالم، فسد الله به الخلل وكان الأمين على ما أؤتمن، القوي على عزائم الأمور، ومن توفيق الله للأمة أنك كنت خياره لولاية العهد وقيادة التغيير ورسم ملامح مستقبل السعودية الحديثة، ومما تفيأت الظلال والنعم به على هذا الكيان أنك كنت عضده في مسيرته الزاهرة فتكاملت معه حتى أوتيت من التوفيق والمسؤولية ما جعلك خير معين لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان حفظه الله في تعزيز مفهوم الدولة الحديثة التي تجاوزت الصلاحيات إلى المسؤوليات...
سيدي...
سيأتي اليوم الذي يحكي فيه التاريخ عن أيامنا هذه وما فيها من تحديات ومعوقات وإنجازات استثنائية، يتحدث بكل معطياته دون منغصات وتزييف عن قصة الكفاح الذي رسمت به خارطة طريق جيل كامل، سيقف عند مقاومة جبالك الباذخة التي تطاول عنان السماء لكل صخور الأودية السحيقة، عن قممك التي تعممت بالثلوج وتدثرت بالقوة والأمل والطموح والصلابة، عن نجومك اللامعة في كل هذا السديم وكأنك تلك النقطة المضيئة بالحياة التي رصدها المسبار فياجر من آخر هذه المجرات المظلمة، وتلك نفسك الأبية هي التي تحطم كل عوامل التعرية التي تستهدف روح القمم وتستعصي على الذوبان في هذا الملكوت الواسع...
نعم إن نقل العقل من سيادة النمطية وحافة الانهيار وقيعان الوحل إلى القمم الشماء والانبعاث الحضاري وتحريره من الخرافات وتخليص الذات من الأنانية السوداء في هذه الفترة العالمية الحالكة التي تميزت بسيادة الهيمنة والوصاية والأوبئة والفساد والحروب القذرة على كل شيء حولنا هي مهمة عظمى لرجل يصنع التاريخ بثبات يحترف كل التحولات والأدوات لبناء المشروع العظيم، وهكذا أنت سيدي، أمير الشباب وقائد التغيير الذي أخلصت لمهمتك وأنت في ريعان الشباب إذ تحملت مسؤولية الأمة كما تحملها من قبلك شباب الإسلام العظماء، من أمثال أسامة بن زيد إذ اختاره رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لم يتجاوز الثامنة عشرة من عمره لقيادة جيش فيه عمر بن الخطاب وكبار الصحابة رضي الله عنهم، والقائد محمد بن القاسم فاتح بلاد السند والهند وهو لم يتجاوز السابعة عشرة من عمره، وعبد الرحمن الناصر أعظم الخلفاء الأمويين في الأندلس إذ تولّى إمارة الأندلس وهو لم يتجاوز الثانية والعشرين من عمره، ومحمد الفاتح الذي فتح القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية والتي استعصت على كبار القادة في وقتها وكان في الثانية والعشرين من عمره، وقتيبة بن مسلم فاتح الصين وكان في السادسة والثلاثين من عمره، ولا ينسى التاريخ الملك عبد العزيز الذي فتح الرياض وأعاد ملك أجداده وهو لم يتجاوز السادسة والعشرين من عمره، ولا أخالك سيدي في هذا الوقت إلا فارس المعارك الكبرى وصمام الأمان للأمة التي انتظرت فارسها كثيرا من أجل الحرية والانبهار والصدارة لتحمل سيدي مشعل النور أمام تلك الأمة المثقلة الخطوات المملوءة بالآلام والآمال فتضيء بفكرك الاستراتيجي الطريق لها في عمليات نوعية تعد أرقى ما وصلت إليه العبقرية في الكفاح من أجل أعظم المشروعات الإنسانية العظمى ألا وهي تحرير العقل البشري أولا...
سيدي...
كل زعماء التاريخ القديم والحديث على السواء إلا من رحم الله - وما أكثرهم- أغرتهم السلطات والصلاحيات والأنانية وتناسوا المسؤوليات ورسالة التاريخ والمهمات العظمى، وحينما تفسح لهم الفرصة الالتقاء بشعوبهم فإنهم يتحدثون عن طموحاتهم ومشاريعهم الشخصية، وهم وشعوبهم في تلك الحالة أشبه ببهلواني يمسك أفعى، وكلاهما خائف من الآخر، يغريهم التصفيق والهتافات والتماثيل وكل ما يفرعن تلك الذات البشرية ويحولها من الإنسانية إلى الصنمية، وأما أنت يا سمو الأمير فقد تحولت إلى ملهم للمشروع وقدوة للشباب وفي كل حديث متلفز أو غير متلفز تتحدث عن المشروع وتحدياته وعن النهضة والمستقبل المشرق، عن المكانة التي يجب أن نكون عليها إنسانا ودولة وأمة، عن ضرورة تجاوز صفقات النفط إلى اقتصاد المعرفة وتمكين الإنسان الذي هو المحور الأول في التنمية المستدامة، في ظل استعمال دقيق للغة الأرقام ونظريات الإحصاء ومؤشرات الأداء لأنها المعيار الصادق الذي لا يكذب، ولذلك لا نعجب حينما تستأثر الأحلام والذكاء الاصطناعي والريبوتات والمبادرات على مفاصل لقاءاتك وخطابك الإعلامي الممنهج، الذي يستحضر أيضا القفزة الحرة من الإعلام الأرضي الكلاسيكي إلى الاتصال الفضائي بكل تحولاته الرقمية المتسارعة وبخاصة أن الثورة الصناعية الرابعة واندماج التقنيات أحرقت كل سفن النمطية وراءها في هذا الزمن وتجاوزت تلك الثورة الرقمية تغيير سلوك الإنسان إلى تغيير الإنسان نفسه كما قال المؤرخ الاقتصادي بجامعة هارفارد نيل فيرغيسون في مؤتمر دافوس 2016، وتستحضر عبقريتك دائما تلك التحديات في رسم خارطة مستقبل الدولة الحديثة ومالها من احتياجات جوهرية فتعيد هيكلتها بما يخدم المشروع بكفاءاته الوطنية وتفرض النظام والقانون بما يحقق العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص بين المواطنين وتعزز روح المبادرة وتغرس الأمل وحب الحياة في نفوس طموحة تريد أن تكون شيئا معتبرا في هذا العالم وتسن لوائح الذوق العام على المشهد لتؤنسنه بكل تفاصيله وتحاول جاهدا أن تكون مهمتك الأولى بعث الطاقات الكامنة في جيل كامل يعيش أقسى التحديات بين العدو الذي أمامه والبحر الذي خلفه، حتى أصبحت سيدي في سنوات معدودة حلم الشعوب في هذا العالم المتمدن، واكتسحت بعنفوان وكريزما - ليست إلا لك يا سمو الأمير- ميادينها الرسمية ومنتدياتها الشعبية لتكون المحارب الأول في هذا العالم للفساد والتوحش والكراهية والتخف بكل صوره المرعبة، وأصبحت أيقونة كل جيل يحلم بواقع أفضل، بل أجيال تريد أن تعيش في الشمس ومزيد من الضوء الذي يمنح الحياة ألوانا قزحية وطيورا يملأ تغريدها السكون بالألحان وفراشات تنتقل من زهرة إلى زهرة بانتظام وأمان، تريد واقعا مملوءا بالحب والرغبة وجودة حياة ذات مؤسسات مدنية متزنة وشفافية واقعية وحرية منضبطة وتكافؤ فرص ودولة وطنية تلغي كل الفوارق والطبقية ودرجات السلم الاجتماعي المزيفة، أجيال تحلم على يديك أن تكشف زوايا ظلام الكهوف التي تنبت فيها الحشائش السامة والفيروسات الضارة والطحالب الملونة والحيوانات ذات العيون اللصوصية، أجيال تحلم بمشروع يؤمن بالدفء المتزن الذي يضبط الحركة الجزيئية للمادة الحياتية بكاملها ومافيها من إنسان وكوكب وآفاق، إذ أتعبها الشقاء الإنساني واليأس المتسلل للروح والهوية والتفاصيل اليومية المضطربة من درجات الغليان وانفلات الجزيئات والطفرات الجينية المشوهة لواقع يستحق أن يكون أفضل بكثير على يديك يا سمو الأمير مما كان عليه في رحم نظرية النوافذ المحطمة لتفتح أبواب الحياة على مصراعيها، واقع يمتد كأمراس كتان امرئ القيس بين عنان السماء استعلاء وبين أبعد نقطة في عمق المحيطات نزولا، متجاوزا مشروعنا بك سيدي كل فقاعات المياه السطحية التي تحركها الريح كما تشاء إذ لم تعد تجدي في رسم مستقبل مأمول، وليس له إلا أنت سمو الأمير...
سيدي... يا منطق الأشياء وروح النظام وهيبة القانون..
حينما يصف رئيس الولايات المتحدة الأمريكية دونالد ترامب شخصيتك للعالم، ويقول عنك: «زعيم متمكن من سلطاته» فهو يعي ما يقول وعارف ببواطن الأمور ودهاليز السياسة، وحينما يؤكد ذلك رئيس روسيا بوتين ويقول «إنك رجل دولة نشيط جدا، وإنك رجل تعرف ما تريد وبإمكانك تحقيق أهدافك» فهو يدرك تلك الأبعاد في الشخصية التي أمامه، وحينما يتناول الرئيس الأسبق للولايات المتحدة أوباما صفاتك وقدراتك ويقف كثيرا أمام ذكائك حتى أثرت إعجابه بكونك واسع الاطلاع والمعرفة جدا على الرغم من مرحلة الشباب وينص على أنك حكيم تخطى سنينا من عمره فهو يحلل قدرات استثنائية لزعيم قادم لا يقرأ شعبه وحده ملامحه بل إن العالم بأسره يشاركنا القراءة لما لبلادنا من أهمية في هذا العالم الذي أجمع ساسته واقتصاديوه أنك القائد الذي نحتاجه ويحتاجه ذلك العالم في هذه الظرفية من التاريخ الإنساني الصامت الأذكى والشاهد الأقسى والذي لا يصرخ في وجوه معاصريه: افعلوا كذا ولا تفعلوا ذاك، كلهم أولئك سيدي على يقين أن ما فعلته وتفعله في هذه السنوات القليلة في عمر الإنسانية سيكون جوابا مقنعا لسؤال التاريخ الدائم لشخصياته بعد فوات الأوان: لم فعلتم كل ذلك؟
نعم لم يجمع زعماء العالم بالحديث عن قائد التغيير مثلما تحدثوا عنك وأجمعوا عليك، واستطعت بتوفيق الله أن تكون ملهما لشباب العالم في مشروعك الثائر على السائد ولكن بطريقة جديدة لا تختلف عن نضال نيلسون مانديلا، ذلك الغزال الأسمر العظيم الذي استوحى من رحم التاريخ الطرق الخالدة لوأد العنصرية التي أقضت مضجع هذا العالم في ألفيته الثالثة، العنصرية المهدد المرعب للمسيرة الإنسانية وجودة الحياة وإنسانها السوي، حتى أصبحت زنزانته مزارا وشاهدا على الصمود والبسالة السمراء. ولا تختلف خطواتك نحو تطويع المستحيل عن خطوات غاندي للحرية البيضاء، ذلك الأروع تحديا بشريا على الإطلاق، والأصبر روحا عارية تحمل في كفها المغزل الوطني والنسيج المحاك بأيد فقرائه وفي الكف الأخرى الاستقلال لشعبه العظيم، ولا تختلف أحلامك التي أطلقتها في نيوم والقدية والروح السعودية والرؤية الإستراتيجية 2030 عن أحلام مارتن لوثر كينج التي حطمت واقعا لا يرحم الحلم القزحي ولا يعي جدلية اللون، نعم لا تختلف سيدي عنهم لأنك الخيار الأمثل والهدف الأسمى والأمل القادم من سحائب الأحلام، فأنت وهم أمام قوى مقاومة التغيير التي تعد أكبر معوق للطموح الإنساني وتميزت يا سمو الأمير بالقوة العظمى والتوفيق والثقة والسلالة الملكية العريقة التي تحطم كل شيء في طريقها لعنان السماوات وحولها شباب العالم الذي تجاوز مفهوم الاستقلال والحرية والنضال والسجون إلى فضاء التكنلوجيا والتقنية وثورات الاتصال والطاقات المتجددة، يبحث عن سلامة كوكب الأرض، وتمكين الإنسان وتوفير الرفاهية وجودة الحياة لشعوب بأكملها، ولذلك العالم يراهن عليك بكل ما يملك وما لا يملك في سبيل تحقيق نظريات العمران والحضارات على حد تعبير ابن خلدون، وإن استحق أولئك العظماء الذين أخلصوا لقضاياهم الوطنية وأعطوا التاريخ مسوغات منطقية ليحجز لهم السطور الأولى على صفحاته البيضاء بطريقة غير مفهومة للبشر فأنت بحق منطق صناعة التاريخ تستحق أن تكون قائدا لروح العالم المتمدن بجمع المواصفات الاستثنائية لكل عظماء التاريخ ويؤكد ذلك أن ما تكتبه باحترافية في سفر الإنسانية في هذه السنوات بطريقة لن تختلف عما فعله ميجي لليابان وما كتبه لي كوان يو لسنغافورا ومابثه الجنرال بارك تشونغ في روح شباب كوريا الجنوبية ونمورها الآسيوية وما كتبه صناع التاريخ في قصة الحضارة من نظريات الطرق القصيرة في التقدم، إذ ألهمتكؤيتك باستغلال حضارتنا الإسلامية وعمقنا الجغرافي وعراقة إرثنا الوطني لتبدأ مشروعك بتعزيز مفهوم الدولة الوطنية بكل ما يحمله المشروع من تنوع حتى أنك لم ترتض شعارا لقمة العشرين (G20) إلا من نسيج هذه الأرض وبحياكة يد إنسانها المثابر لتعطي كل من هم حولك درسا أخلاقيا من خلال أصابع يد ذلك المواطن السعودي البسيط الذي كنت تفاخر بها كل شركات الإعلانات التي تصمم شعارات العالم، وكان أستاذ تلك المدرسة الوطنية هو أنت يا سمو الأمير وحولك هذا الشعب الوفي المحيط بك من كل الجوانب في صورة تؤكد على التلاحم المجتمعي واللحمة الوطنية، مدرسة عريقة تلاميذها هؤلاء الشباب ذوي الثقافة الصناعية وريادة الأعمال والمشروعات الوطنية ومبادرات الابتكار واقتصاد المعرفة ومعولها الصلد هو تلك الأيدي السعودية الطموحة التي لم تعد تخجل من العمل وتستحي من ارتداء بدلة المصنع وخوذة الشركة في صورة تؤكد أن حلمك سيدي هو حلم جيل كامل بروح سعودية في تفكيك التوحش والعودة بالإنسان إلى عالم الأنسنة الطبيعي.. والأدهى أن الكل يراقبك وأنت تتقدم حينا وتتراجع حينا آخر تصحيحا وتكتيكا وتغير من خطك وتقر ثقافة المحاسبة والإنجاز فتكلف بمسؤولية وتعفي بمحاسبة وتندفع بثقة وتتدفق بأمل ولا تقبل التراجع في المشروع لتعلن للعالم أنك ماض فيه ولا تقبل التأخير... أيدك الله سيدي.
** **
- وكيل جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية لشؤون المعاهد العلمية