د. علي بن فايز الجحني
إن النهوض بمشروع الأمن الفكري ورسالته على مختلف الصعد، هو في حقيقة الأمر مؤشر نجاح ثقافة الأمة وأمنها، ويعني إجهاض الاستهداف، وأساليب الانحراف الفكري والسلوكي، من خلال إغلاق أبواب ونوافذ الشر، وتعزيز اللحمة الوطنية، وبالتالي مخاطبة الآخر والتفاعل معه بندية وفاعلية.
ويخطئ من يعتقد أن الأمن الفكري يعمل على الحد من فضاءات الحرية والثقافة، أو يفرض لائحة من الممنوعات على الفكر، فلو قيل لأصحاب هذا الرأي بأن الأمن الصحي يعني التضييق على مناشط وسبل صحة الإنسان وسلامته، لكان ذلك غير صحيح، إذ إن الاهتمام بصحة الإنسان، والقطاع الصحي، وصناعة الأدوية والتعليم الصحي السليم، والتوعية المستمرة، والحد من الأخطاء الطبية، ومن سطو الأثرياء وحيتان السوق من استغلال القطاع الصحي، كل ذلك مطلب لصحة الإنسان ورفاهيته، وهو جزء مما يركز عليه الأمن الصحي، وفى نفس السياق مسألة الأمن الغذائي، والأمن البيئي، والأمن المائي، وغيرها من منظومة الأمن الشامل.
وعليه فإن الأمن الفكري يعني توفير الزاد الثقافي والعلمي المفيد للإنسان عامة والمسلم خاصة للحصول على الوجبة الغذائية الفكرية والثقافية التي تحتوي على جميع العناصر والفيتامينات التي يحتاج إليها الجسم.
ولكي يتحقق هذا المطلب لا بد من استصحاب عنصرين أساسيين في مسار الثقافة هما:
- الاعتزاز بالهوية وبالذات الثقافية الحضارية.
- الانفتاح العالمي، وحوار أصحاب الشبهات والأفكار الضارة بمسارات التنمية، وأمن المجتمع داخليًا وخارجيًا والتصدي لحالات الاختراق الفكري والثقافي، وتعظيم الوقاية من الجرائم على مختلف مستوياتها وأشكالها.
إن العمل الدؤوب على استنطاق ثقافتنا الذاتية، بحيث تكون قادرة على تحقيق المقاومة والحصانة الذاتية، التي تحد من كل عمليات التخريب والإفساد الثقافي، وإبطال عمليات التخريب الفكري، والتأثير السيئ للثقافات والأفكار الضالة والوافدة، مطلب حيوي؛ إذ إن العلاقة بين الثقافة والأمن الفكري علاوة على ما سبق علاقة وثيقة يتعذر الفصل بينهما، وازدهار أي منهما مرتبط بالآخر أيما ارتباط.
إن العلاقة بين الثقافة والأمن لها تجلياتها، ويجب أن تكون علاقة تكاملية لا غني لأحدهما عن الآخر، باعتبار المثقف الملتزم يمتلك أدوات الثقافة والتفكير والحوار والحركة العقلية والفكرية والوعي المستنير الذي يعصمه من الانهزام والانطواء، من جهة، ومن جهة ثانية، لأنه وبحكم تكوينه الثقافي كعنصر مهم في هذه الأمة إنما يجسد الهوية والانتماء إلى خير أمة أخرجت للناس، على أن هناك مسارات شائكة ومعضلات تواجه المثقف العربي لا يجب أن يقفز عليها منها:
- اعتقاد البعض بأنه لم يواكب العصر في التعبير عن مستجداته وهمومه بما يكفي، وظل إنتاجه بعيدًا -إلى حد كبير- عن متناول الأجيال التي انحازت لمستجدات العصر.
- أن بعض المثقفين قد فرض على نفسه عزلة قللت من فرصة تواجده وتأثيره.
- أن المحتوى الثقافي العربي على الإنترنت في نهاية المطاف أقل المحتويات بين كل الثقافات واللغات الأخرى، في حين أن الآخر يعزز حظوظ إنتاجه ومنتجاته الثقافية التي قد ينظر لها على أنها أكثر رشاقة وحيوية وواقعية.
ولأهمية الثقافة وخطورتها يقول جوزيف جوبلز وزير الدعاية النازي صاحب الشعار الشهير «اكذب حتى يصدقك الناس» يقول في نفس: «كلما سمعت كلمة مثقف تحسست مسدسي».
ولذا، فإن على المثقف أن يكون منحازًا للبناء وللأمن والتنمية والاستقرار، وفى نفس الوقت محاربًا جادًا بقلمه وفكره للجهل والخرافات، والعائشين على البدع، والتضليل وتكريس التخلف، وهذه جزء أساس من رسالته التي تعتمد على تجسير التواصل مع الحياة ومع إنسانية الإنسان.
ومن هنا كانت الكلمة سلاحًا ذا حدين، وهي إما أن تكون أداة بناء وتواصل وأمن وأمان، وإما أن تكون مِعْوَل هدمٍ وأداة تخريب وإفساد في الأرض، ومن هنا تتضح مسئولية المثقف نحو كلماته، وهذا ما أكده الرسول -صلى الله عليه وسلم- في بيان أهمية الوعي بتلك المسئولية (يا نبي الله! وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟) سؤال وجهه معاذ «رضي الله عنه» إلى النبي «صلى الله عليه وسلم» عندما نصحه بقوله: كف عليك هذا -وأشار إلى لسانه- وكان رده «صلى الله عليه وسلم»: (ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم؟) رواه الترمذي ولأهمية عظم المسؤولية وأمانة الكلمة قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ أمنوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} (إبراهيم: 24-27)، ويقول صلى الله عليه وسلم: «إن العبد ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالًا من رضوان الله يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالًا يهوي بها في جهنم» (البخاري ومسلم).
كم كلمة أخمدت فتنة؟ وكم كلمة أشعلت نارًا لا تبقي ولا تذر؟ والكلمة في الإسلام ليست حركات يؤديها المرء دون شعور بالمسؤولية التي تتبعها، بل إنها موقف ومسؤولية، سواء أكانت منطوقة أم مكتوبة؛ لما لها من تأثير في مجال الخطاب والتعبير عن الرأي والرأي الآخر.
ومن هنا كان على المثقف أن يسهم من خلال الكلمة المسؤولة في حماية الأمن الفكري في مجتمعه، موظفًا قلمه ولسانه وفكره، في ترسيخ الولاء والانتماء، والمحافظة على ثوابت ومكتسبات الوطن في زمن يتسلل فيه الجفاء والغلو والجحود والتطرف إلى عقول بعض الشباب من ضعيفي المناعة، قليلي الفهم الشرعي، خاصة إذا أصبح المثقف يجسد الثقافة التي تعني «السلوك»، كما يقول مالك بن نبي، ومن لا يحمل السلوك الراقي، ويدافع عن ثوابت أمته وأمنها فأولى به ألا يكون في عداد المثقفين.
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن أن نثير جملة من التساؤلات منها: إلى أي مدى تسهم الثقافة والمثقفون في الوقاية من الفكر المتطرف في المجتمع؟ والجواب دون شك يعتمد على أهمية التعرف على واقع الثقافة ذاتها، ومن جهة أخرى التعرف على أهم الوسائل الثقافية المساهمة في نشر ثقافة الفكر المضاد، على أن الثقافة تظل في النسق العقدي والمجتمعي أداة مؤثرة من أدوات مكونات قوة الدولة؛ إذ كلما كان المواطن مثقفًا واعيًا ومدركًا لما يحيط به من مهددات، كان أكثر مناعة، وأقدر على اكتساب الحصانة الذاتية التي تجعله مؤهلًا على مواجهة كل التيارات الهدامة.
والمثقف المتزن يعمل على غرس ثقافة الأخلاق والقيم، والمواطنة الإيجابية والتسامح والتعايش بين أبناء الإنسانية مع تعدد أجناسهم وعقائدهم وأطيافهم، وفى مجتمعنا يعمل أو يفترض ذلك على ترسيخ الوسطية في الدين وإعلاء قيم المواطنة، وقيم حقوق الإنسان، فضلًا عن احترام الثوابت، والقوانين والأنظمة، وحقوق ولي الأمر، وقيم الحب والسلام والإخاء، وهذه المرتكزات هي في صميم اهتمامات رسالة الأمن الفكري.
وهنا يتجلى دور المثقف في حماية الأمن الفكري في جانبين:
الجانب الأول: الجانب الذي يركز على تحصين البناء الثقافي والتصدي لكل عمليات الإخلال بالأمن والتنمية.
الجانب الثاني: تكريس صنع الحياة الثقافية الإيجابية التي تقوي الذات وتنهض بالوعي الثقافي في إطار الثوابت، بعيدًا عن الانطواء، ورفض منجزات الحضارة الحديثة، وعمليات التواصل.
قد رشحوك لأمر لو فطنت له
فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل