د. علي بن فايز الجحني
لقد عجز - للأسف - الكثير من المثقفين العرب عن التصدي لتلك الحملات المعادية، وعن بناء جسور حقيقية بين الماضي والحاضر واستشراف المستقبل، والتعرف على المهددات الحقيقية لأمن الإنسان العربي، بل دون مجانبة للحقيقة إذا قلنا: إنهم - أو بعضهم- باتوا جزءًا من الإشكالية ذاتها، وكانت ردة الفعل لديهم على رفض المجتمعات لطروحاتهم أن عزلوا أنفسهم عن الهموم الحقيقية للمجتمعات وتطلعاتها، وانصرفوا إلى قضايا ومعارك أدبية، وخصومات جانبية، ونعرات وتحزبات، وتناقضات قاتلة، تنخر في البناء الثقافي، وأمن مجتمعاتهم الفكرية والمادية، في حين أنه كان يتعين عليهم المواجهة وتحفيز الطاقات الإبداعية لدى الشباب، وتحريك النفوس إلى الجدية في العمل، وتحجيم ثقافة الإحباط والتيئيس، ومحاربة الانحرافات الفكرية، وكل آفات المجتمع.
إن صناعة المثقف المؤهل تستغرق وقتًا طويلًا، كما أن إعداده وتزويده بالأدوات اللازمة ليس ترفًا، بل مطلب حضاري فكري، ووجودي للأجيال القادمة.
إن المجتمعات العربية تتطلع إلى المثقف الذي يعالج القضايا، ويسهم في إيجاد الحلول للمشكلات التي تقف في سبيل تقدم وازدهار وأمن مجتمعاتهم بأسلوب معتدل متزن، وأيضًا يتحرك في إطار الثوابت المجتمعية، لا يبالغ أو يهون في معالجاته وتحليلاته، وهذا لن يتأتى له إلا إذا اتصف بالجد والاجتهاد في امتلاك ناصية الثقافة، التي يكدح من أجلها من المهد إلى اللحد، ومن المحبرة إلى المقبرة.
إن على من يريد استقاء الثقافة، والارتشاف من بحرها المترامي الأطراف أن يجتهد في نيلها مهما كانت الظروف، وأن يتفاعل مع المجتمع؛ إذ إن الإشكالية في بعض مثقفي هذا الزمان هي انطواؤهم على أنفسهم، وأحياناً الانشغال بالشعارات وفي الجدل الذي لا طائل من ورائه.
إن عبارتي: «وطن لا نحميه لا نستحق العيش فيه» و»حب الوطن من الإيمان» تحتويان على معانٍ سامية، مما يتعين على المثقف أن يترجم ذلك على تضاريس الواقع موظفًا قلمه وفكره، لخدمة الصالح العام، والمحافظة على المكتسبات والمنجزات، والتصدي لكل ما يهدد الأمن والاستقرار واللحمة الوطنية، مشجعًا على الخير، ومقبلًا على الأعمال التطوعية، والمساعدات الإنسانية.
أما المثقف السلبي، المنعزل عن هموم مجتمعه، فهو شخص هارب من الجبهة، ومن خندق الصمود والمساندة، ولا يعد مثقفًا حقيقيًّا.
وفي المقابل هناك المثقف صاحب القلب النابض بالصدق والإخلاص الذي يسهم في تعزيز الأمن الفكري من خلال استصحاب جملة من العناوين والركائز الأساسية التي يعمل عليها وينافح عنها ومنها:
- السعي المستمر لتعزيز الأمن الفكري وترسيخه في إطار الثوابت والحقوق المشروعة في التفكير والتعبير.
- الإدراك أن العناصر التي تعمل على ترويج أفكارها وبث سمومها بوسائلها إنما تهدف إلى إقصاء الأمة عن ثوابتها، وقيمها الوسطية المعتدلة، وزرع الفتنة والكراهية بين فئات المجتمع الواحد، وتفتيت وحدته الوطنية، ونسيجه الاجتماعي.
- إن من أسباب تفشي الانحرافات الفكرية، ضعف التربية والتنشئة بين كثير من الأسر وضعف المسؤولية الشخصية والاجتماعية، وغياب ثقافة الحوار، والثقافة النظامية.
- الوحدة الوطنية تتطلب من المثقف وضع الأصبع على أصل الداء في المجتمع، ومن ثم وصف الدواء، حماية للمجتمع من الإرهاب والانحرافات الفكرية، التي إن تركت فإن الفاتورة فيما بعد ستكون باهظة التكاليف، ولات ساعة مندم.
إن الأمن الفكري في الأساس هو: حماية ثوابت الإنسان وأرضه وفكره من الانحراف، أو الخروج عن الوسطية والاعتدال والتسامح، وبمعنى آخر، الأمن الفكري يهتم بالتحصين ضد العلل والأمراض الفكرية التي تظهر على السطح بين حين وآخر.
وإنه ليحمد للمثقف السعودي الجاد دوره والتزامه في التصدي لكل المغالطات والشرور التي تنهال على الوطن من أعدائه، ولا غرو فإن وطنًا يحتضن أطهر البقاع على وجه الأرض: الحرمين الشريفين، ويضم في جنباته الإنجازات العظيمة، والتاريخ المجيد، المعمور بذاكرة العز والبطولات وعبقرية المكان والرجال، وبأكبر مشروع وحدوي عربي في التاريخ الحديث أنجزه المؤسس الملك عبد العزيز - طيب الله ثراه - لا غرابة إذا أصبح في بؤرة الاهتمام، وفي مستوى المسؤولية.
لا شك أن القراءة والاطلاع في شتى المعارف والعلوم هي ديدن ومطلب ومقصد المثقف ليستطيع التفاعل مع المجتمع ويؤثر فيه، فالمثقف قد لا يحمل شهادات عليا، ولكنه طور ذاته بالقراءة والاطلاع المستمر حتى أصبحت الثقافة هي السمة والعنوان الأبرز في حياته، ومن جميل الأقوال: إن الطبيب الذي لا يقرأ ويتابع الجديد في اختصاصه قد يصبح نجارًا.
إن الأمن الفكري ينطلق من رسالة سماوية صالحة لكل زمان ومكان، وهو «التزام، واعتدال، ووسطية، وشعور بالانتماء إلى ثقافة الأمة وقيمها، فضلًا عن أنه حماية لعقل الإنسان وفكره، ورأيه في إطار الثوابت الأساسية، والمقاصد المعتبرة، والحقوق المشروعة المنبثقة من الإسلام عقيدة وشريعة».
ومن الثابت أن الانحرافات الفكرية والسلوكية، ومنها الغلو والتطرف والتكفير وأيضًا الجفاء تعمل على زعزعة الأمن والاستقرار والوئام الاجتماعي، وتعمل على توهين العزائم، وضياع الشخصية، والانسلاخ من مصادر القوة، وصرف الشباب عن قناعتهم إلى أفكار مضللة تعمل على:
«إقصاء أبناء الأمة عن ثوابتها وقيمها، وبذر بذور اليأس والانهزامية بين صفوفها.
«تحويل ولائهم إلى تلك المزاعم الباطلة، والأفكار الشريرة، والفتاوى المضللة.
«تعريض أمن البلاد والعباد في المجتمعات العربية والإسلامية لأخطار شتى.
إن الناظر في كيفية دخول الشوائب والمبادئ الهدامة والأفكار الضالة على أفكار بعض شباب العرب والمسلمين يجد من أسبابها: ضعف الحصانة الفكرية والمناعة التي تعصمهم أو تحميهم من الوقوع في هذه المزالق الفكرية الخطيرة أولًا. والجهل بالإسلام الحق، واتباع الهوى، والغرور، والإعجاب بالرأي، والجمود والتعصب، ثانيًا. وفي المقابل تراجع أداء العلماء والمثقفين، وحملة الأقلام والفكر عن دورهم في توجيه الشباب.
إن الحفاظ على فكر الأمة هو القاعدة الصلبة للأمن والسلم الاجتماعي التي ترتفع عليها أعمدة البناء في مضامينها ومظاهرها وصورها المختلفة، فأمن الفرد أساس التنمية ومحور أوجه التطور والازدهار؛ إذ لا تنمية دون أمن، ولا أمن دون تنمية، وهو يعني كذلك استقرار الأمة ورخاءها، ويتمثل في سلامتها، وسلامة بنائها وكل مقومات الاستقرار فيها، وحمايتها من أي نشاط هدام، يستهدف المساس ببنيتها الأساسية ومؤسساتها واقتصادها وثوابتها الاجتماعية وعاداتها وتقاليدها. ولأهمية سلامة فكر الأمة وتأثيره على مجرى نشاطاتها المتعددة دأبت الدول على إيلائه عناية واهتمامًا بارزين بين جميع أنشطتها المختلفة؛ لكونه يشكل الركيزة الأساسية لأوجه التطور والتنمية فيها ومدار الحياة المنتظمة المستقرة.
وتنبع أهمية الأمن الفكري من كونه يستمد جذوره من عقيدة الأمة ومسلماتها، ويحدد هويتها، ويحقق ذاتيتها ويراعي مميزاتها وخصائصها، وبتحقيقه يتحقق التلاحم والوحدة - بين شرائح المجتمع - في الفكر والمنهج والسلوك والهدف والغاية.
إن المثقف لا يكتفي بكل ما ذكر سابقًا، بل هو من يسعى لتأصيل الأمن الفكري وترسيخه، ويتصدى للاختلالات والانحرافات الفكرية والسلوكية، والتجاوزات على منهج الوسطية والاعتدال، أو يفترض ذلك، والعمل على تنمية الوازع الديني والأخلاقي في أفراد المجتمع لمواجهة الأحداث الخطيرة والتصدي للغزو الفكري والمؤثرات الإعلامية السلبية، وتأصيل مبدأ الطاعة لله ولرسوله ولأولي الأمر، واحترام الأنظمة، والتفاعل مع المجتمع، والتحذير من التحزبات والعصبيات الضيِّقة العمياء، مع الالتزام بالمنهجيَّة والموضوعيَّة في النقد والتحليل وطرح الآراء والأفكار، واستصحاب هموم الوطن في أعلى مستوياته، مع الانحياز له ولمصالحه، والتصدي لأعدائه، وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لحسَّان بن ثابت: «اهجهم وروح القدس معك»، ويقول: «إن شعرك أشد عليهم وقعاً من وقع النبال»..