د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** في درس البلاغة الأول خلال التكوين المبكر فاجأنا الكتابُ المقرّر والمعلِّمُ الموقر باستهجانهما مفردة «الشُّطّار» متكئَين على بيت أبي نواس:
ومُلحَّةٍ بالعذل تحسبُ أنني
بالجهلِ أتركُ صحبة الشُّطّارِ
** كنا حديثي عهدٍ بإشارتها إلى المجدّين المجتهدين؛ فكيف صار معناها: «من أعيا أهلَه خبثًا»، ولكنها الدلالاتُ تتبدلُ، والأضدادُ تتحوّل، ومكانُ المفردة وزمانُها ومحيطُها يغيِّر كثيرًا أو قليلًا في مؤداها وفق النموِّ اللغوي والإنماءِ البيئيّ والمعرفيّ، وقد يقعُ بعضُنا في حرجٍ إذا وظّف كلمةً لدى فئامٍ فيما لا يرتضيه فئامٌ سواهم، ولعلماء فقه اللغة مباحثُ معمقةٌ في هذا المسار.
** ظلت «شاطر» ذاتَ إيحاءٍ إيجابيٍ؛ فالأقربُ أنها من كلمات الأضداد، وقد صدرت حولها مروياتٌ تراثيةٌ، وأُفردت لها ولشقيقتها «عَيَّار» كتاباتٌ تأريخيةٌ إذ تجاوزتا البحث المعجميَّ إلى الواقع السياسيِّ والمجتمعيِّ، وكان عهدُنا بكلمة: «عيّار» أنه الإنسانُ خفيفُ الظلِّ ذو البديهة السريعة والجرأة اللطيفة القادرُ على صنع تعليقاتٍ مؤثِّرة حول الحياة والأحياء، وتبيَّن أنّ لهما ( الشطار والعيّارين) حضورًا في المسرح السياسي بتمثيلهما حراكًا نشطًا ظهر نهايةَ القرن الثاني الهجريّ خلال صراع «الأمين والمأمون»، وانتهى في خلافة «المستعصم بالله» منتصف القرن السابع الهجريّ.
** وتجاورًا مع الاختلاف الدلاليِّ وتأويل المعاني فإن «عيَّاري» القرن الخامس عشر الهجري مختلفون عن عيَّاري العصر العباسي الذين كانوا يسرقون الأغنياء ويصرفونها على الفقراء، مشبهين في صورةٍ من صورهم أعمال «الصعاليك» في العصر الجاهلي؛ ليبدوَ «عيَّارونا» طيبين، مسالمين، يُحيون الطُّرفة زمن الخُطوب، فتتوالى تعليقاتُهم في الرخاء وتتكثّفُ حين تشتدُّ المِحن.
** لا تختلف الشعوب في توظيفها « النكتة « أوقات الأزمات، وفيما ساد المصريون ولا يزالون في نثر المُلَحِ على أنفسهم فإن في مُجاوريهم مَن نافسهم، وفي الكوميديا السوداء امتاز « العيَّارون» بظهورهم المتقد، وكانت برامجُ منتصف الليل في محطات التلفزيون الأميركي تجتذب الملايين لمشاهدة «جوني كارسون « و»ديفيد ليترمان»، وتبعهم «تريفور نوح» و»ستيفن كوليير» و»جيمي فالون» وغيرُهم، كما ظهرت «الكوميديا الواقفة» وصار لها جماهيرُها عبر البث الرقمي والخاص، وأعلى قيمةٍ لها السعيُ لإخراج الناس من أمزجتهم السيئة.
** لغةُ الإعلام محايدةٌ كما يُفترض، وقد ولَّى زمن الحدّة والصخب الذي طبعَ البرامج العربية أيام المعضلات السياسية في مدرسة «أحمد سعيد» و»صوت العرب»، وقُدِّم « التعليقُ على الأنباء» متوترًا بأصواتٍ عاليةٍ تُشعل الحربَ وتؤذنُ بالخراب، ولعلها - أو معظمَها - قد توارت أمام لغةِ «العيَّارين» باكيةً بابتسامة، وضاحكةً بدموع.
** رُويَ عن أحد الظرفاء اليمنيين قولُه: «احمدوا الله؛ فقد كنتم دون رئيسٍ ولا حكومة ولا برلمان فصرتم برئيسين وحكومتين وبرلمانَين»، ولا جدل أن مؤداها «الهادئَ» هادرٌ؛ فالتعاملُ مع الحزن شِفاء لكن الحزن في التعامل شَقاء.
** الظَّرفُ يُشقي ويُسعد.