د. حمزة السالم
الرقابة على الصحافة في دول العالم قيد لم تفرضه الصحافة على نفسها، بل هو أمر قد فُرض عليها. وقد يتفهم المرء جدوى سياسة الرقابة على الصحف والمجلات في العقود المنصرمة، ولكنني أعتقد أن هذه السياسة اليوم تشكل عاملاً مهمًا في الإسراع في عملية الإجهاز على الصحافة وإخراجها من الأدوات الإعلامية التي تؤثر في المجتمع وتقود فكره واتجاهاته.
اليوم انقلب دور الرقابة، فأصبحت نتائجها عكسية عمّا كانت عليه بالأمس؛ فبالأمس كان للرقابة دور في تحجيم الفكر وتوجيهه، وأما اليوم فقد أصبح للرقابة دور عكسي. الرقابة اليوم تدفع الجمهور للبحث عن المعلومات خارج الصحافة بعين انتقائية تبحث عمّا يخالف توجه الصحافة بشكل عام، وبذلك تفقد الصحافة دورها في إدارة الأزمات، بعد أن تكون قد أفقدتها مكانتها الإعلامية في المجتمع.
في العقود الماضية أذهبت التقنية الكثير من المهن العريقة والعتيقة وأتت بمهن أخرى جديدة فحلتها مكانها. والحصيف آنذاك من تدارك الوضع في بداياته فتأقلم مع الجديد وطوع مهاراته له فهو اليوم لم يقعد يبكي زمانه ويشكو حاله، بل هو اليوم يتغنى بأيامه الخوالي بدلاً من أن يتأسف عليها. واليوم لم يعد يخفي على أحد جدية تهديد تنقية المعلومات بجميع أشكالها على الصحافة التقليدية، فلم يبق للصحافة التقليدية اليوم إلا قراؤها من الجيل الماضي والحالي من دون فئة الشباب، فالشباب يجد صحافته في الإنترنت وفي القنوات التلفزيونية، هذه التقنية الإعلامية المعلوماتية ليست كشريط كاسيت البارحة.
لم يعد الزمان كالزمان، فالحول اليوم كالأسبوع بالأمس والأمور لم تعد كما هي: مجرد موضات عصرية تمر بها المجتمعات كل نصف قرن، إذا انحنى لها المجتمع وهادنها فإنها ستمر عليه بسلام، ثم تزول ويعفو عليها غبار النسيان، بل ستخلعه من جذوره، وتقذف به في ذنب التاريخ. فهذه الموضات الحادثة، لا تزول، بل هي ثابتة وتتطور.
لم يُختصر الزمان اليوم بتقارب المسافات، بل بتقارب العلوم والمعارف والثقافات وهيمنة إمبراطورية تقنية المعلومات العظمى.
الميزة التنافسية للصحافة والإعلام عمومًا، هي امتلاك مصداقية، تجعلها موضع ثقة كما تعرضها للمساءلة وتحملها للمسؤولية.
هذه الميزة التنافسية يمكن استثمارها بذكاء وحكمة للوقوف بقوة أمام الهجمات الشرسة التي يشنها الفضاء المفتوح للمعلومات. وإن إمعان مقص الرقيب -في دول العالم الثالث- في تشديد الرقابة على جسد الصحافة، سيؤدي حتمًا إلى ضياع مصداقيتها، وبالتالي يصبح المجتمع عرضة لهجمات المغرضين والرعاع عمومًا.
إن من أحسن ما قيل في حكم النظرات الإستراتيجية: «لا ينفع البر يوم الغارة»، وإن لم تعمل بعض دول العالم اليوم، على تأسيس صحافة لها قدم صدق لها في عقول شباب البلاد، فلن يقوم للصحافة التقليدية مقام مستقبلي. وضياع مصداقية الصحافة، هو ضياع لأهم أداة فعالة لتوجيه الفكر في المجتمع، وجمع كلمته وقت الأزمات.
إن الصحافة كلمة، وحالها حال العملة الورقية والطبيب والمعلم ما أن تهتز ثقة الناس بهم فلا يصلحها شيء، ولو بذل العطار أعشابه كلها في سبيل ذلك.