الرياض - خاص بـ«الجزيرة»:
تؤكد التعاليم الإسلامية على عظم شأن الدّيْن، وخطورة التساهل به، وذلك لأن حقوق الناس أمرها عظيم، والمسلم مطالب دائماً أن يتقي الله في حقوق الناس، وأن يتخلق بأخلاق الإسلام في آداب الوفاء، وأن يحسن القضاء. وتشهد المحاكم الآن العديد من قضايا المداينات والمماطلة في التسديد والتساهل في تحميل الذمة بالدّيْن.
«الجزيرة» التقت عدداً من المتخصصين في العلوم الشرعية والمحامين والقانونيين، ليتحدثوا حول الخطوات الكفيلة للحد من هذه الظاهرة التي تفشت في المجتمع بسبب غيبة الوعي الصحيح لعظم أمر الدّيْن.
وصايا ووقفات
يقول الدكتور أحمد بن عبدالعزيز الشثري، أستاذ الفقه المشارك بجامعة الأمير سطام بن عبدالعزيز، وعضو مجلس إدارة الجمعية الفقهية السعودية: لا يخفى على مسلم عاقل خطورة الدين، لذلك كان خير الأمة رسولنا -صلى الله عليه وسلم- يتعوذ بالله من الدين دائماُ، والدَّين والعياذ بالله من غير حاجة همٌّ بالنهار وسهرٌ بالليل، والإنسانُ المدين في قلق وتعب وخوف دائم في الدنيا، لذلك ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يستعيذ بالله كثيراً من المغرم فقيل له يا رسول الله ما أكثر ما تستعيذ بالله من المغرم فقال: (إن الرجل إذا غرم حدث فكذب ووعد فأخلف) متفق عليه، وقد رفض النبي -صلى الله عليه وسلم- الصلاة على من مات وعليه دين، وقال: (صلوا على صاحبكم)، فلما فتح الله عليه الفتوح قال: (أنا أولى بالمسلمين من أنفسهم فمن مات وعليه دين فعليّ قضاؤه)، وهكذا تفعل دولتنا المباركة وفقها الله في السداد عن كل من كان عليه دين للدولة في إسقاط الديون عنهم في حال وفاتهم تأسياً بنبينا -صلى الله عليه وسلم-.. وأما العقوبة الأخروية لمن كان عليه دين ولم يسدده فغرم وحق وظلم متعلق بذمة ورقبة صاحبه لا يسقط إلا بعفو وصفح صاحبه. فقد ورد في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من كان له عند أخيه مظلمة فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم).. أما من كان محتاجاً للاستدانة فلا حرج عليه في ذلك وسيعان -بإذن الله- إذا كان عازماً ومتعهداً بقضاء الدين؛ وهناك بشرى له من خير البشر عليه الصلاة والسلام إذا كان ينوي أداء حقوق الناس. فقد روى البخاري في صحيحه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله).
عملية التوازن
ويبين الدكتور عادل بن عبدالله التويجري المستشار القانوني أنه مع صدور التعديلات لبعض مواد ونصوص نظام التنفيذ، فإننا نعيش حالة تتمثل في التنازع عند صياغة وتقرير الأنظمة واللوائح بين ضمانات الدائن وحفظ حقوقه، وبين التعامل مع المدين بما يحقق وفاء الدائن للمدين من غير أن يمتد هذا الالتزام إلى الإضرار بشخص المدين أو بأحد أفراد أسرته من التابعين، ويحتاج ذلك عملية تتصف بالتوازن في المجتمع، ويتولى هذا التوازن عدة أطراف، أولهم المدين الذي يجب أن يوفق بين مدخلاته ومصروفاته، ولا يقحم نفسه في أيّ عملية اقتراض إلا بعد أن يتيقن أن ذلك من الضروريات له وأسرته، ويقوم بعد ذلك بالتخطيط لسداد الدين بما يتوافق مع قدرته المالية، ويحذّر كل الحذر أثناء فترة سداد الدين من الاشتراك في تعاملات مالية تؤثر على سداد الدين، وقبل ذلك التوكل على الله وطلب العون من الله على قضاء الدين.. كما أن الدائن سواء كان شخصاً أو مؤسسة مالية من المشاركين في عملية التوازن في المجتمع، ويكمن ذلك بالتأكد من القدرة المالية للمدين، وعدم تضخيم المبلغ المالي محل الدين الذي ينتج عنه أقساط عالية القيمة وفوائد مبالغ فيها، بالإضافة إلى عدم تمكين الوسطاء خاصة الأجانب الذين يستغلون حاجة المدين، ويعملون على إيجاد تسهيلات للمدين للوصول به إلى إتمام عملية الإقراض والحصول على الفائدة منه.
السجل الائتماني
ويؤكد الدكتور ماجد بن عبدالله الهديان، المتخصص في قانون الاستثمار الأجنبي، أن كثرة الدعاوى التي تعج بها أروقة المحاكم نتيجة فقدان الثقة وانعدام المصداقية بين الكثير من الناس، تبرز أهمية اللجوء إلى توثيق التعاملات المالية من خلال التوجيه الرباني بكتابة العقد لما له من دور مهم وبارز في حفظ الحقوق وتحديد الالتزامات بين المدين والدائن ومحل الديّن، ويضبط العلاقة بينهما ويسهل على القاضي في حال نشوب نزاع بين أطرافه الرجوع إلى أحكامه وشروطه وتفسيرها فيما يتفق مع الشرع والنظام والحكم بموجبهما.
والتوثيق لا ينافي الثقة ولكن بقدر الإمكان لمنع تباين وجهات النظر عند تنفيذ الالتزام، ولأن الوضع يكاد يتحول إلى ظاهرة مرعبة ومخيفة؛ في زمن يغلب على أهله -إلا من رحم الله- الكذب واللجوء إلى الحيلة والخديعة، وصار المكر سمة البعض حتى أصبح عندهم الكسب الحرام عادة مأثورة والعياذ بالله من ذلك، وهذا يقوّض بنيان المجتمع اقتصاديا واجتماعياً ويجعل المجتمع الإسلامي محلا لانتزاع الثقة والأمان في التعاملات المالية؛ في حين تسود مجتمعات أخرى الصدق والأمانة فتكون ذات نفع عام لجذب الأموال ولإقامة المشاريع الاستثمارية ويوصف اقتصادها بالقوة والمصداقية، ونظراً لما لظاهرة التخلف عن سداد الديّن من آثار سلبية وعواقب وخيمة على الفرد والمجتمع؛ فقد يكون من المستحسن اللجوء إلى إيجاد مكاتب السجل الائتماني التي من شأنها أن تعالج هذه الظاهرة بين أفراد المجتمع على غرار مكاتب الائتمان التي يتحوط قطاع المال والأعمال.
مساعدة المدينين
ويقدم الأستاذ ذيب بن محمد الدوسري المستشار القانوني بعض الخطوات التي قد تساهم في الحد من تلك الظاهرة التي تفشت في المجتمع، ومنها: ضرورة توعية الناس بخطورة الدَّين، وأن الحقوق لا تسقط بالنجاة منها في الدنيا، وحثهم على تسديد ديونهم، من خلال الدروس والندوات والفعاليات، ووسائل الإعلام المختلفة، وتذكيرهم بعاقبة عدم تسديد ديونهم بما ورد بالكتاب والسنة، وتفعيل العقوبات الشرعية للمدينين المماطلين، حيث لا نزاع بين العلماء في أن المدين المليء إذا امتنع عن الوفاء بلا عذر فإنه يلزم تعزيره بالعقوبة الزاجرة التي تحمله على المبادرة إلى رفع ظلمه وضرره عن الدائن الممطول.
الوفاء بالحقوق
ويكشف المحامي الأستاذ سليمان بن يوسف العُمري: عن اطلاعهم على العديد من العقود التي فرط أصحابها بحقوقهم نظراً للثقة المفرطة بين المتعاملين سواء على مستوى الأفراد أو حتى على مستوى الكيانات التجارية والذين لا يكلفون أنفسهم بسؤال متخصصين سواء محامين أو مستشارين قانونيين عن كيفية كتابة العقود أو حتى عن صحتها مما يؤدي إلى فساد كبير في عقودهم وعلاقاتهم التجارية، وبالتالي يؤدي بهؤلاء المتعاملين إلى أمور لا تحمد عقباها كالسجن نتيجة هذا التفريط.. مهيباً بجميع المتعاملين اللجوء إلى المحامين خاصة في مجال العقود التجارية تجنباً لحدوث أي إشكالات مستقبلاً، وأن يتقي الجميع الله ويجعلوه نصب أعينهم في جميع تعاملاتهم، فمن يتقى الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب.