عمر إبراهيم الرشيد
لهذا الكون نواميسه التي أبدعها الخالق جل جلاله، فالإنسان خلق من ضعف مهما وصل إليه من قوة، والتاريخ ينوء بثقله دروسًا وعبرًا لمن قرأ واعتبر. دقيقة تأمل في أحوال العالم مع اكتساح هذا الفيروس وكيف عم الذعر والارتباك وتهاوى الاقتصاد وانكفأ البشر عبر العالم في بيوتهم، تخبرنا هذه الدقيقة كيف كان العالم قبل كورونا وكيف انقلب على رأسه بعده. ألم يخرج علينا من يتحدث عن (بحث) إمكانية إطالة عمر الإِنسان، وعن إمكانية زراعة رأس إنسان مكان آخر، وحين تقرأ ماخلف هذا الكلام تدرك بسهولة ماوصل إليه بعض البشر من طغيان وإن لبس ثياب البحث العلمي، وإلا أين هذا (التبختر) أمام أصغر المخلوقات وأينه من تطوير لقاح ناجع بدل أوهام تحدي الخالق العظيم {حَتَّىَ إذا أخذت الأرض زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أمرنا ليلاً أو نَهَارًا} (الآية 24 يس)، سعار بشري بلغ مداه وتجبر وصل أقصى حدوده فوقف عاجزًا أمام مخلوق لا يرى بغير المجهر الإلكتروني. هي الدروس للبشر كلهم لا تأتي إلا بالمحن والعقلاء وحدهم من يستفيدون ويتعضون، أوروبا التي نعرفها اليوم بديمقراطيتها لم تعرف الاستقرار والرخاء إلا بعد حربين طاحنتين قضت على الأخضر واليابس مع أكثر من ستين مليون قتيل ومثلهم مصابون ومعاقون نفسيًا وجسديًا. ونحن كمسلمين ولله الحمد ومهما اعترانا من وهن إلا أن مثل هذه الجائحة نذير، هي ابتلاء للإيمان بقدرة الله ورحمته حتى في أكبر الأزمات، والعمل بالأسباب مع حسن التوكل، وبالمناسبة حتى غير المسلمين يرجع بعضهم في مثل هذه المحن إلى فطرته، فتخف النزاعات ويهدأ ذلك التوحش المادي والغرائزي. وإجمالاً فقد لحقنا لهاث الحياة المادية برغم إسلامنا وطبيعتنا الاجتماعية، وراح الكثيرون فينا يتبعون القوم تقليدًا في كل شي، ومع هذه الثورة الرقمية زادت الأمور فجاجة وابتذالاً إلا ما رحم ربي، فأتينا من حيث لا نحتسب. وحين اتخذت الحكومة السعودية هذه الإجراءات الوقائية التي سبقت بها حتى دول صناعية متقدمة، وتجاوب المجتمع ولله الحمد بنسبة كبيرة لتلك الإجراءات الوقائية وهذه من المنح السانحة في المحن، تحفز الوعي ليس الصحي فقط وإنما الاجتماعي والاقتصادي، عدا عن السياسي على مستوى الحكومات والدول، لأننا كما قلت كنا بحاجة إلى ما يوقظ معظمنا من هذا اللهاث واعتياد الحياة الاستهلاكية والنعمة، وحين تتمعنون في توقالنشاطات الرياضية والترفيهية وتوقف العمل المباشر في الدوائر الحكومية والقطاع الخاص تدركون المعاني الناصعة خلف السطور.
والآن ماذا بعد انجلاء هذا الوباء بقدرة الله ورحمته، شهدنا بكاء المؤذنين في بيوت الله ومنادي الفلاح تأثرًا بالدعوة إلى الصلاة في البيوت، وشهدنا اعتماد التعليم عن بعد وإكمال العام به على أغلب الظن، وشهدنا العمل الحكومي والخاص والخدماتي كذلك عن بعد، فلعل هذه الجائحة تعيد تذكيرنا بفضل بيوت الله وأثرها الروحي والاجتماعي. ثم التساؤل، هل تفتح هذه الأزمة الكونية الباب لاعتماد المدارس الافتراضية لدينا والتعليم عن بعد ولو لنسبة منها، فتوفر المليارات والموارد والطاقات والوقت. وهل تفتح هذه الأزمة الكونية باب التوظيف من المنازل أكثر مما كان قبل الأزمة إِذ هو لدينا لا يقارن بغيره في دول متقدمة. وهل تعيد هذه الجائحة وعينا الاجتماعي وترابطنا إلى طبيعته، وتعيد مدننا وشوارعنا إلى شيء من الهدوء ويخف هذا التلوث الصحي والنفسي. من رحم الأزمات تولد الفرص، وهذه جائحة ظاهرها الوباء وهو كذلك بتبعاته الاجتماعية والاقتصادية، وباطنها رحمة لبني البشر لعلهم يرشدون، فالعالم بعدها لن يعود كما هو قبلها، ستتغير ملامحه سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا وعلميًا، والسعيد من وعظ بغيره فردًا كان أو مجتمعًا بكامله، فاللهم لطف تدبيرك، حفظكم الرحمن والى اللقاء.