سعد بن دخيل الدخيل
بذل الملك المؤسس وضحى وغامر بشجاعة وبسالة ليوحد هذه البلاد تحت راية التوحيد ورسَّى الأمن فيها بعد الصراعات بين القبائل والحروب والتناحر والخوف والذعر الذي يصيب الناس في مسيرهم لزيارة الحرمين الشريفين يقول الشاعر الحميدي بن فهاد المزيني الحربي:
عبدالعزيز اللي حكم نجد بالسيف
ليل يسبر به وليل سرابه
وخلا عناتيت القبايل مواليف
كل رقد بأمان ماصك بابه
ورفرف علمها فوق روس المشاريف
وارست بشرع الله ومحكم كتابه
ويارب عز ملوكنا والوطن ريف
مربعين وكل يوم سحابه
والتحدي لدى الملك المؤسس هو أنه وحد البلاد الشاسعة في ظل شظف عيش وقلة موارد، لكنها الثقة في النفس والثقة المتبادلة بين القائد وفريقه، والألفة بين القائد والشعب الذين يفرحون ويتبادلون التهاني حين يسمعون المنادي يصيح بأعلى صوته «الملك لله ثم لعبدالعزيز»، إنها جاذبية الشخصية عند الملك المؤسس، وهو ما أطلق عليه Max Weber «الكاريزما»، تقاسم مع شعبه الطموح والإصرار وضيق ذات اليد وشح المال، ومع هذا فالملك المؤسس لا يبخل على شعبه ولا على الأرض التي يعيش عليها هو وإياهم، فاتصل بالعالم لينقل الحضارة والتطور ويشيد البنى التحتية التي تكفل العيش الكريم لكل مواطن عبر كل مجالات الحياة، والقطاع الصحي من الأولويات لديه ليطهر الأرض وساكنيها من الأسقام السارية والمعدية والعارضة، وقد كتبت مقالاً نشر في العدد 13527 في يوم الأحد 22 شوال 1430هـ الموافق 11أكتوبر 2009م بعنوان: «سلطان نجد وملحقاتها في مواجهة وباء الإنفلونزا 1918م» وتحدَّثت فيه عن اجتياح مرض الإنفلونزا للعالم وكيف أن الملك المؤسس حاربه واستعان بالأطباء لمكافحته وعلاج من أصيب به.
واليوم يجتاح العالم وباء «فيروس كورونا (19-COVID)» التي أبلغ عنها لأول مرة بمدينة ووهان الصينية وتبذل الدولة أعزها الله الجهود لمحاربته واتخذت إجراءات احترازية عديدة منها إغلاق المنافذ البرية ومنع قدوم الرحلات من البلدان الموبوءة وتشييد المحاجر الصحية كل هذا عبر إدارة تكاملية للأزمة شملت جميع قطاعات الدولة ومؤسساتها، وهذا يجعلنا نتذكر الملك المؤسس -رحمه الله رحمة واسعة- حين مرت البلاد بأزمات صحية ومنها مرض الكوليرا الذي اجتاح مصر قرب موسم الحج وتفوق وهو القائد الفذ في إدارة الأزمة والفريق الذي معه، وقد بدأ اهتمام الملك المؤسس المبكر بحماية البلاد من الأمراض السارية من خلال أمره السامي وموافقته على نظام الوقاية من الأمراض المعدية الذي نشر في العدد 511 من جريدة أم القرى يوم الجمعة 19 جمادى الآخرة سنة 1353هـ الموافق 28 سبتمبر سنة 1934م وفيه كما في المادة رقم 1: «يبحث هذا النظام عن التدابير التي يجب اتخاذها عند ظهور الأمراض السارية ويسمى كل مرض سريًا إذا كان قابلاً للانتقال إلى آخرين بواسطة أشخاص أو محلات أو أشياء ملوثة به»، وجاء في النظام في المادة 9: «يحق للسلطة الصحية أن تتخذ التدابير اللازمة لمراقبة وملاحظة الأشخاص الحاملين لجراثيم الأمراض السارية ولم تظهر عليهم أعراضها... وللسلطة الصحية اتخاذ الاحتياطات التي تقتضيها الحالة فيما في ذلك عزل المريض أو الأشخاص المخالطين له في منزل واحد لحين إتمام الأبحاث اللازمة لتشخيص المرض على ألا تتجاوز مدة البحث عن خمسة أيام» وفي المادة 23 من النظام جاء: «ممنوع كليًا نقل الشخص المصاب بأحد المرضين المعديين السابقين ذكرهما من ناحية إلى أخرى أو من منزل إلى آخر أو الاشتراك في نقله مباشرة أو بواسطة» كما جاء في المادة 28.
أ- كل شخص يمانع السلطة الصحية المحلية في تنفيذ واجباتها المنصوص عنها في هذا النظام.
ب- كل شخص يخالف أو يقاوم أي أمر تصدره السلطة الصحية المحلية بموجب السلطة الممنوحة لها في هذا النظام.
ج- كل شخص يخالف غير ذلك من أحكام هذا النظام يعد متمردًا بمقتضاه ويعرض نفسه لغرامة لا تتجاوز عشرة جنيهات أو بالسجن لمدة لا تزيد على ثلاثة أشهر أو كليهما ويعاقب بمثل هذه العقوبة كل شخص يساعد على ارتكاب جرم ضد هذا النظام أو يشترك فيه على أن تطبق العقوبة المنصوص عليها في المادة عن طريق المحاكمة حسب الأصول» وعلى هذا جاء في المادة 29 التشديد على التبليغ عن المصابين: «على أهل المنزل الذي تحدث فيه إصابة بأحد المرضين المذكورين وعلى الجيران وعلى كل من يعلم بهما أن يبلغ عنها لأقرب دائرة صحية بلا إهمال»، وفي عام 1366هـ - 1947م ظهر مرض الكوليرا في مصر وتفشى هناك وطلبت الحكومة المصرية المساعدات الطبية من أمصال وغيرها من الأدوية والأدوات الطبية لمكافحته وعلاجه وقد اهتم الملك المؤسس بهذا لفزع الناس من القادمين من مصر كون موسم الحج على الأبواب آنذاك وخطر العدوى بين الحجاج كبير جدًا لذا نشرت جريدة أم القرى خبر تفشي الكوليرا في العدد 1178 يوم الجمعة 18 ذو القعدة 1366هـ الموافق 3 أكتوبر 1947م تحت عنوان: «الاهتمام بمرض الكوليرا في مصر والعمل على مكافحته» وجاء في استهلال الخبر: «لقد شغلت الناس في الأيام الأخيرة بأخبار وقوع إصابات بمرض الكوليرا (الهيضة) في مصر» وجاء في الخبر قلق الدول مما حصل فاتخذت الدول حظرًا على القادمين من مصر بعدم دخول أراضيها: «وقد استوجب وجود هذا المرض بمصر أن اتخذت حكومات الشرق الأوسط التدابير الواقية من تسربه إلى بلادها فمنعت حكومة إيران أن يدخل بلادها القادمون إليها من مصر بحرًا وجوًا منعًا باتا كما منعت أن يدخل بلادها القادمون إليها من العراق إلا بعد حجرهم في محجرها الصحي مدة ستة أيام وكذلك منعت حكومات العراق وسوريا ولبنان وفلسطين وتركيا واليونان أن يدخل بلدانهم القادمون إليها من مصر إلا بعد إجراء عملية الحجر الصحي عليهم وتلقيحهم بالمصل الواقي من الكوليرا كما أعلنت الحكومتان السورية والتركية أنهما ترخصان بسفر الحجاج إلى الحجاز بعد تلقيحهم بالمصل الواقي من المرض». وقد تعاطف الملك المؤسس انطلاقًا من شهامته العربية كما اهتم بقدوم موسم الحج وتوافد الحجاج على الأراضي المقدسة فجاء في الخبر بشأن ذلك: «أما حكومتنا وشعبها وعلى رأس الجميع جلالة مليكنا المعظم - حفظه الله- فقد اهتموا بما وقع في مصر منذ أن بلغهم أيما اهتمام وأظهروا شعور عطفهم عليهم وتأثرهم مما أصابها ولجؤوإلى الله مبتهلين ضارعين إليه سبحانه وتعالى أن يرفع عن شقيقتنا مصر الوباء وأن يحفظها وأهلها من كل سوء وبلاء»، وجاءت الإجراءات الرسمية وفق توجيهات الملك المؤسس عبدالعزيز غفر الله له من خلال توجيه وزير المالية بعقد اجتماع لرؤساء دوائر الحكومة بحضور مدير الصحة العام لدراسة الحالة وتقرير ما يلزم إجراؤه من التدابير الفعالة والتعاون بين الدوائر الحكومية على تنفيذها لمنع تسرب هذا المرض الوبيل إلى هذه البلاد ووقاية أهلها والحجاج الواردين إليها منه والمحافظة على صحتهم العامة بمنتهى الدقة والإحكام، وقد شكلت هيئة عليا بأمر الملك المؤسس -طيب الله ثراه- وقررت اللجنة عد قرارات منها:
1- أخذ الاحتياطات الصحية حيال القادمين من مصر سواء بطريق الجو أو البحر وقد بلغ عددهم 20 ألف حاج.
2- وضع بعض الطائرات والبواخر بجميع ركابها وملاحيها قيد الحجر والمراقبة الصحية.
3- منع دخول الفواكه والخضار التي ترد عادة من مصر.
4- طلب عاجل للقاحات ومطهرات زيادة عمّا لدى إدارة الصحة (وقد طلب الملك المؤسس من الولايات المتحدة الأمريكية وبصورة مستعجلة كمية كبيرة من المصل الواقي والأدوية والوسائل المفيدة في مكافحة الوباء من الكوليرا تكفي لتطعيم جميع السكان والحجاج).
5- إصدار نشرة صحية ونصائح طبية ورجت الجمهور المحافظة عليها وتنفيذها مع مراعاة تطبيقها (وقد نشرت في الجريدة الرسمية أم القرى..... احتوت على مجموعة من التعليمات التي يجب اتباعها وقد طبعت بكميات كبيرة وتم توزيعها على الناس).
6- حفظ الماء في البرك في عرفات وعين زبيدة ومياه منى وصهاريجها من التلوث.
7- تشكيل هيئات طبية من مكة والمدينة وجدة لإجراء الدوريات اللازمة والتفتيش في الأسواق ومراقبة جميع محال الباعة والمطاعم وأماكن بيع الصناعات التي لها علاقة بالصحة وعموم المقاهي.
8- إعداد تعليمات خاصة بالمطوفين والزمازمة وصبيانهم ومراقبة بيوت الحجاج وتوزيع المطهرات اللازمة عليهم.
9- جهزت مستشفيات احتياطية في مكة وجدة والمدينة المنورة استعدادًا للطوارئ، وقد جاء في الأخبار التي تتابع المرض ومكافحته: «ولا يزال معالي وزير المالية مهتمًا بتنفيذ التدابير إلى تقرر اتخاذها في هذا السبيل مواصلاً السؤال عنها تحقيقًا لرغبات جلالة الملك المعظم الحريص على سلامة شعبه وسلامة الحجاج الوافدين إلى بلاده»، وقد بعثت هذه الإجراءات في نفوس الشعب على الطمأنينة التامة لتبرهن حرص الحكومة على صحة الجميع. ويفند الشائعات التي تروج حينها بأن البلاد أصيبت بالكوليرا وقد نشر في جريدة أم القرى تحت عنوان «تكذيب رسمي لإشاعة إصابات بمرض الكوليرا في الحجاز» وجاء التكذيب على النحو التالي: «أشاع بعض المرجفين بأن هناك إصابات بمرض الكوليرا في الحجاز. وحيث إن هذه الإشاعة عارية عن الصحة والحالة الصحية في الحجاز على أحسن ما يرام ولله الحمد فكذبوا كل إشاعة من هذا القبيل في الصحف لديكم». بل إن جلالة الملك عبدالعزيز غفر الله له طلب الإفادة عن الطلاب الذي تم ابتعاثهم للدراسة في مصر ووجه بتطعيمهم ضد المرض من خلال طبيب البعثة السعودية. وقد جرى في أعوام سابقة ولاحقة محاربة بعض الأمراض السارية المعدية كالجدري والتيفوئيد وغيرها من خلال حملات التطعيم. وقد تعاونت الصحة بتوجيه من الملك المؤسس مع الهيئة الصحية العالمية في فحص التصاميم الخاصة بمحطة الحجر الصحي التي أمر الملك المؤسس عبدالعزيز غفر الله له بإنشائها في مدينة جدة.
وبعد هذا الاستعراض لاهتمام مؤسس هذه البلاد بمحاربة ومكافحة الأمراض المعدية نعلم يقينًا أننا أمام تاريخ عظيم لرجل عظيم أرسى الدعائم وشيد القواعد لتصبح المملكة العربية السعودية البلد المتين الذي يشق عباب التنمية ويسابق ليكون في مصاف الدول المتحضرة ويحظى بالمكانة العالمية اللائقة به وبقيادته وشعبه العظيم، ولا غرابة فنحن الآن نجد الثمار لجهود الملك المؤسس يانعة براقة برغد من العيش نتفيأ ظلاله وننام بأمن وأمان، ولا تزال الخطى حثيثة في عهد ملك الحزم خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز - حفظه الله- وولي عهده صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز -وفَّقه الله-.